خاص- التلميذ الذي تفوّق على أستاذه
من علامات الأزمنة الرديئة أن تصل الأمور الى يوم يطالب فيه رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل ومن مثله بتحصيل حقوق المسيحيين لتأمين المناصفة والشراكة في الحكم، بعد نحو عقدين من سيطرته، بالتعاون مع حليفه “حزب الله”، على الدولة بكل مقدراتها، حتى أوصلاها الى قاع جهنّم.
لا شك أن النائب باسيل ظاهرة سياسية بكل ما للكلمة من معنى، لأن التاريخ اللبناني، وربما العالمي، لم يشهد له مثيلًا. اتكأ المهندس الشاب والطموح على علاقة مصاهرة بالعماد ميشال عون لينطلق سريعًا في عالم السياسة، مقارعًا بتجربته الفتية شبه المعدومة ديناصورات عتيقة أكل الزمن عليهم وشرب في عالم السياسة وقبلها الميليشيات، وبعضهم نقل معه الميليشيا الى عالم السياسة فانتقل من سلطة الأمر الواقع الى سلطة الشرعية.
حاول باسيل أن يبتكر نموذجًا جديدًا وفريدًا في السياسة اللبنانية، فاجتهد لتطوير نفسه على أمل أن يشكل بشخصه خليطًا من شخصيات سياسية وعسكرية في التاريخ اللبناني الحديث:
في البداية حاول باسيل التشبه بعمه الجنرال عون بتصوير نفسه انه رجل الشرعية والجيش، متكئًا على تاريخ الجنرال عون الطويل في المؤسسة العسكرية، بالرغم من علامات الاستفهام الكثيرة التي تخيّم على هذا التاريخ، لعل أبرزها حربي التحرير عام 1989 والإلغاء عام 1990. فشل باسيل في تحقيق هذا الهدف لأنه ببساطة ليس من صلب هذه المؤسسة، ولأنه تاليًا تعاطى مع قادتها بفوقية لم يقبلها معظم قيادييها.
ثم انتقل باسيل ليقلّب صفحات الماضي القريب ففتنته قامة الرئيس كميل شمعون بحنكته وصلابته ودهائه السياسي.”استعار” باسيل (بموافقة عمّه ودعمه طبعًا) من الرئيس شمعون اسم حزبه، حزب “الوطنيين الأحرار”، وحوّله من الجمع الى المفرد، فأصبح “الوطني الحر” وزاد عليه التيار نسبة الى التيار العوني، فنشأ اسم “التيار الوطني الحر”، على أمل أن يكون نذير خير عليه فيبلغ مصاف القامات التاريخية الكبرى.
بعد ذلك حاول باسيل تقمّص شخصية الشيخ بشير الجميل القائد والرئيس لجهة خطابه المباشر والشعبي المحبب من مناصريه والمهاب من خصومه، كما في طروحاته السياسية لجهة حرصه على الوجود المسيحي الحر في لبنان بموازاة حلمه بإقامة دولة جامعة يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات. أيضًا فشل باسيل في هذه المحاولة لأسباب عدة أبرزها أن بشير استند الى تاريخه النضالي عسكريًا في زمن الحرب ليطور بعدها خطابه باتجاه المكونات الوطنية الأخرى. كما ان بشير القائد لم تقتصر قوته على الأقوال والشعارات بل انه كان يعمل على تنفيذ وعوده، أو معظمها، فضلًا عن أن بشير الجميل قائد “القوات اللبنانية” وابن مؤسس حزب “الكتائب اللبنانية” كان مثالًا في نظافة الكف ومحاربة الفساد في المؤسسات التي تولاها وفي المجتمع المسيحي عمومًا، لدرجة أنه لم يكن يملك شيئًا تقريبًا حتى تاريخ استشهاده في 14 ايلول 1982.
كما تعمق باسيل في تجربة مؤسس “الكتائب” الشيخ بيار الجميل فأعجب بتركيبة الحزب وبنيته التنظيمية وانضباط كوادره، وخاصة بتجربته شبه العسكرية قبيل الحرب اللبنانية. حاول نقل هذه التجربة الى تياره الفتي من خلال تأسيس تركيبة ميليشياوية أطلق عليها تسمية “الحرس القديم”. إلا أن هذه الحالة الملتبسة سرعان ما أثبتت فشلها لسبب بسيط هو أن القوى النظامية الكتائبية تحركت في بداية الحرب بعد انحلال الجيش اللبناني لحماية المنطقة الشرقية في حينه من اعتداءات الغرباء، أما “الحرس القديم” فحاول أن يكون ميليشيا في فترة السلم وفي مواجهة أخصام التيار سياسيًا وليس لرد خطر معتدٍ خارجي.
بعد دخوله عالم السياسة، حاول باسيل الاستفادة من تجربة رئيس مجلس النواب نبيه بري، الأستاذ في دعم محازبيه وتوزيعهم على الوزارات والإدارات العامة لضمان ولائهم وعائلاتهم من جهة ولإحكام سيطرته من خلالهم على مؤسسات الدولة. حاول باسيل استنساخ التجربة فمني بفشل ذريع أيضًا، ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة أبرزها قائد الجيش العماد جوزيف عون ورئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود والحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة (الذي صوّت على التمديد له في ولايته الأخيرة)، وغيرهم الكثير. ويعود فشل باسيل في هذا المجال ليس الى قلة وفاء هؤلاء الأشخاص بل الى شعورهم الوطني العالي الذي دفعهم الى تغليب مصلحة الوطن على المصالح السياسية والشخصية الضيقة.
في الوقت نفسه حاول باسيل أن يستلهم بعضًا من شخصية الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لجهة الاستدارات السياسية العنيفة التي اشتهر بها بيك المختارة على مدى عقود. فشل باسيل أيضًا في تحقيق هدفه لأن المجتمع المسيحي لا يشبه المجتمع الدرزي في هذا المجال، فضلًا عن أن مناصري وليد جنبلاط يثقون بتوجهاته ثقة عمياء بحكم تجربتهم معه في الحرب والسلم، وهو ما لا ينطبق على مبتدئ في السياسة لا تاريخ له يمكنه الاستناد إليه.
في مجالات أخرى، وخلال فترة تقاربه من رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية قبل القطيعة بين الطرفين، أُعجب باسيل بفروسية وشهامة وصدق الزعيم الزغرتاوي، فحاول استعارة هذه الصفات المحببة من الناس. لم يجد باسيل الى ذلك سبيلًا، ذلك أن الصدق يحتاج الى إثبات، والشهامة والفروسية صفتان مناقضتان للانتهازية والوصولية اللتين أدخلتا باسيل عالم السياسة.
بعد تحرير لبنان من الاحتلال السوري عام 2005 تعرف باسيل بصورة مختلفة على رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، خصمه اللدود وغريمه الأول على الساحة المسيحية. أعجب بعقائدية جعجع وصلابته وصموده وثباته على مواقفه حتى ولو كلفته عقدًا ونيّف سجنًا. والأهم أعجب بعد ذلك بنزاهته ونظافة كفه من خلال تعاطي وزراء “القوات” مع المال العام على رأس الوزارات التي تسلموها. ولأنه أدرك سلفًا عدم قدرته على تقمّص هذه الشخصية أو بعضها، سعى بكل الطرق الى تشويه صورة “القوات” والقواتيين بجميع الوسائل، حتى انقلب السحر على الساحر وجاءه الجواب الشافي من الولايات المتحدة الأميركية عندما أقرت وزارة خزانتها عقوبات غير مسبوقة بحقه بتهم الفساد، وهو ما لم يستطع أو يحاول إثبات عكسه بالطرق القانونية الى اليوم.
أما السيد حسن نصرالله فلا حاجة لباسيل لتقليده. فهو حليفه الوحيد الى ما قدّر الله بالرغم من كل “المسرحيات” التي نشاهدها يوميًا على الشاشات.
أمر وحيد تعلمه جبران من الجنرال وأتقنه حتى تفوّق فيه على معلمه: ممارسة لعبة إلغاء الآخرين مهما كانت النتائج، انطلاقًا من مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. فقد برع التلميذ في تطبيق تعاليم أستاذه حتى أنه لم يترك له منافسًا أو حتى صاحب رأي مغاير لرأيه في “التيار”، فاستأثر بالرأي والقرار، محوّلا التيار الفتي الى نسخة من الأحزاب الشمولية البائدة.