لا قرار الدستوري: “جائحة متحورة” عن العام 2013
ليس صعباً على كثير من المراقبين قراءة ما شهده المجلس الدستوري بعدم توصله إلى اي قرار بشأن الطعن الذي قدمه تكتل «لبنان القوي» في قانون الانتخاب. فالمعادلة كانت واضحة قياساً على حجم الحصص التي توزعها أركان المنظومة. وكل ما في الامر انّ التاريخ أعاد نفسه بفارق ثماني سنوات. ولو ان الشكل جاء مختلفا بين عامي 2013 و2021 فالنتيجة جاءت عينها. فكيف استنسخت «التجربة المتحورة» عن تلك الفترة؟
لم تمر المهل الدستورية التي تحكمت بقرار المجلس الدستوري للنظر في الطعن الذي قدمته مجموعة نواب من تكتل «لبنان القوي» بالتعديلات التي أقرّها المجلس النيابي على بعض مواد قانون الإنتخاب من دون مواكبة سياسية وقانونية ودستورية بغية استثمار الخطوة في المناكفات السياسية قبل النظر في ما يقول به القانون والدستور على وقع الخلاف القائم حول تفسيره في شكل متناقض.
ففي 17 تشرين الثاني الماضي تقدم عشرة نواب من «التيار الوطني الحر» وحلفائه بالطعن أمام المجلس الدستوري على خلفية «اللجوء اليه على «أنه الملاذ الأخير» كما قال احد نوابه على باب مقره. وهي خطوة تلت رد رئيس الجمهورية ميشال عون القانون كما أقرّ في مجلس النواب رافضاً توقيعه ضمن المهلة المعطاة له، معتبراً «أنه بات نافذا حكما، لعدم أخذ مجلس النواب بملاحظاته حول المخالفات الدستورية والقانونية التي شابَته»، بحسب بيان رسمي صدر عن مكتب الإعلام في القصر الجمهوري وهو ما مهّد الطريق للانتقال الى المواجهة امام المجلس الدستوري.
على هذه الخلفيات اتجهت الأنظار الى بولفار كميل شمعون لرصد الورشة الدستورية التي بدأها المجلس في مقره بعد تعيين احد اعضائه الوزير السابق للعدل القاضي البرت سرحان مقرراً في انتظار تقريره الذي كان مدار نقاش في المذاكرة التي استمرت 7 جلسات، انتهت الى عدم صدور قرار في شأن المواد المطعون بها بعدما استبعدت نظرية الابطال الجزئي التي يمكن ان يتوافق عليها أعضاء المجلس لو ان المناقشات كانت قانونية او دستورية بحتة.
وبعيداً من الفرز السياسي الذي رفع المتاريس بين أعضاء الدستوري منذ الجلسة الأولى للمناقشات التي تلت تسلم تقرير المقرر. فالصفقة التي يتردد الحديث عنها مؤخرا في الأروقة السياسية والحزبية وما بين الكتل النيابية سبقت خطوة رفع المطالعة امام المجلس الدستوري بعدما تحولت من باب التهديد بها مناسبة لبعض الطروحات الواسعة التي حاولت ان تعطيها ابعاداً سياسية وادارية وربما قضائية، عندما طاولت الاقتراحات المتداولة رؤوساً كبيرة في السلطة القضائية والمجلس العدلي ومصرف لبنان.
ويضيف العارفون بكثير مما لا يقال، ان ما سمح بهذه «المقايضة السياسية» هو انّ في الطعن كما في القانون الذي أقر على عجل «عيوباً دستورية» يمكن استغلالها في أكثر من اتجاه. وهي لا يمكن ان تمر على خبير دستوري ولو كان مبتدئا، والامثلة متعددة ولعل ابرزها ـ على سبيل المثال لا الحصر – ما يتصل بانتخاب المنتشرين. فالحديث في الطعن عن ضرورة إحياء الدائرة الـ16 بدلاً من اعطائهم حق الاقتراح على أساس الدوائر الـ15 مخالفة كبيرة للمادة 24 من الدستور التي توزع النواب بين المناطق اللبنانية وليس على القارات حيث ينتشر المغتربون. كما انّ ترك المجلس الدستوري من دون البت بمسألة النصاب على اساس النواب الاحياء او عدد أعضاء مجلس النواب قانوناً سيفتح الباب أمام «حرب ضروس» بين القانون والعرف في أكثر من محطة انتخابية لاحقة.
ولا يغفل العارفون عند الحديث عن هذه الفترة وما شهدتها اجتماعات المجلس الدستوري، فقد أدى تسريب احد اعضائه تقرير المقرر البرت سرحان إلى الاعلام، والذي عادة يتم الإحتفاظ باسمه سراً كما مضمونه، الى إحداث ضجة تَندّر بها كثر في الكواليس السياسية والحزبية والقضائية – مع ما رافق ما يعنيه اسمه تحديداً – وهو إن عكسَ شيئاً فقد دلّ الى خطورة المواجهة التي فرزت أعضاء المجلس على مراحل وفق معادلات بدأت بوجود واحدة قالت بـ «4×3×3» بعد أخرى قالت بـ «4×3×2×1»، قبل ان تستقر قبل نهاية مسلسل الاجتماعات باجتماعين على معادلة «6×4» وبقيت ثابتة حتى اللحظات الاخيرة وهي التي حالت في النهاية دون صدور القرار.
وان توقّف المراقبون عند المقارنة بين ما جرى في الأمس وتجربة تعطيل عمل المجلس الدستوري عام 2013 يكشف احد الأعضاء السابقين عن الفوارق الشكلية بين «التجربتين ـ الجائحتين» وحصرها بواحدة. فقال: إضطرّ المعطلون في تلك التجربة التغيّب عن الاجتماعات وتطيير النصاب القانوني لسبب وجيه وهو ان هناك سبعة اعضاء كانوا على رأي واحد في مواجهة ثلاثة آخرين، ولذلك لم يكن امامهم سوى تطيير النصاب القانوني الذي يقول بضرورة تأمين حضور ثمانية اعضاء من اصل العشرة للحؤول دون عملية التصويت في اتجاه تعطيل القانون المطعون به، اي بما لا يريدون الوصول اليه بتفاهم جمعَ طرفين شاركا معاً في «الجائحة» الثانية. اما في الأمس فإنّ استقرار المعادلة على «6 ×4» جعلَ المخالفين لرأي الاكثرية عددياً يعتقدون انّ حضورهم يُبعد الصفة التعطيلية السابقة، ولا يستنسخ عيوبها ومخاطرها التي ترتّبت من تلك السقطة. على رغم انه قد تمّت معالجتها لاحقاً بطريقة ناجحة في أكثر من تجربة قاسية. ومنها عندما صمّ بعض أعضاء المجلس الدستوري آذانهم عن التدخلات السياسية وربما الطائفية والحزبية في الطعن الذي صدر في شأن إبطال مواد في قانون الموازنة العامة والمادة 49 تحديدا التي قالت بإعطاء الحق بالجنسية لكل من يتملك منزلاً في لبنان وليس المجال ممكناً في هذا المقال للحديث عن ابطالها الذين زرعوا الثقة لاحقاً بالمجلس الدستوري السابق وما رافق تلك المحطة من اعترافات واعتذارات عَبّر عنها المتدخلون في تلك المرحلة أمام رئيس واعضاء المجلس أنفسهم في وقت لاحق، فكان ردهم قبول الاعتذار شرط عدم تكرار ما حصل رغم وقوعه مرة ثانية امس.
وانطلاقاً مما تقدم، فقد انتهت المراجع الدستورية والقانونية الى قراءة أوسع لما جرى على بولفار كميل شمعون أمس الأول من تلك الجارية حتى الآن. وهي اذ لم تفاجأ بما حصل فهو كان متوقعا لدى المتابعين بدقة لخريطة المواقف المفروزة داخل المجلس الدستوري. ولذلك رأت في الذي حصل سقوطا مدويا ليس للمجلس الدستوري فحسب، إنما للصفقة التي أُريد لها ان تعقد بوجوهها المختلفة وهو ما لمّح اليه رئيس المجلس – بأسف لم يستطع إخفاءه – عندما طرح مجموعة من الهواجس اكدت ما كان يجري في الخفاء من ضغوط على بعض الأعضاء استمرت حتى اللحظة الاخيرة.
وعليه، تختم هذه المراجع لتؤكد «انّ من يعذب نفسه بوضع لائحة الرابحين والخاسرين عليه ان يكون مقتنعاً انّ من سقط في الأمس كان المنظومة الكاملة التي تحاول عبر صفقاتها المتكررة إبعاد السلطات عن أدوارها لتضعها على لائحة المؤسسات الفاشلة، في وقت يحتاج اللبنانيون والعالم الى تجربة واحدة تُحيي الثقة الخارجية والداخلية بمن يديرون البلاد والعباد وانّ ما هو منتظر من مواجهات قد يكون أخطر من تلك التي عبرت، فلننتظر مجموعة من العجائب والغرائب.