“خطاب اليرزة”: قائد الجيش في صلب المعركة الرئاسيّة!
في التوقيت والمضمون لم يكن الاجتماع الدوري الذي دعا إليه قائد الجيش العماد جوزف عون مع أركان القيادة وقادة الوحدات والأفواج والضبّاط (مقدّم وما فوق) شبيهاً بالاجتماعات التي عادة ما تنظّمها القيادة مع الضبّاط عندما تدعو الحاجة إلى “إعطاء التعليمات والتوجيهات وشرح الأوضاع ورفع المعنويّات”.
هو الاجتماع الأول للقيادة مع ضبّاطها منذ بدء الشغور الرئاسي وبعد أيام من توقيع ملفّ الترسيم البحري مع إسرائيل وفي لحظة بدء الغربلة الحقيقية لأسماء المرشّحين لرئاسة الجمهورية، وقائد الجيش على رأسهم، بالتزامن مع تصاعد الحملة السياسية للنائب جبران باسيل ضدّ العماد عون.
صحيح أنّ عون كرّر، تحت سقف الفراغ الرئاسي هذه المرّة، أنّ الجيش غير معنيّ بتاتاً بالتجاذبات السياسية مع دخول البلاد مرحلة الشغور الذي قد يترافق مع محاولات لاستغلال الوضع للمسّ بالأمن، وأنّه لا ينحاز إلى أيّ طرف أو جهة، وأنّ الأولويّة هي لصون الاستقرار والسلم الأهلي، لكنّ “رسائل القائد” كانت مشبّعة بالرسائل السياسية في كلّ الاتجاهات.
“دوام صيرفة”
الوضع مخيف فعليّاً وشبه خارج عن السيطرة. لا رئيس للجمهورية، وحكومة تصرِّف الأعمال رَفَع أكبر حزبين مسيحيَّين الفيتو بوجه ممارستها لصلاحيات الرئاسة الأولى الشاغرة، ومجلس نواب عاجز عن انتخاب رئيس، وفوضى ماليّة واقتصادية عارِمة، ووضع اقتصادي ومعيشي مرعِب، واقتحامات مسلّحة لمصارف…
وحدها المؤسّسة العسكرية مع باقي الأجهزة الأمنيّة لا تزال واقفة على قدميها وتقاوم “تسونامي” الإطاحة بكلّ مقوّمات الدولة، حتى لو دخل أخيراً قاموسَ العسكريين مصطلحُ “دوام صيرفة” الذي فرضته تعاميم حاكم مصرف لبنان وتتيح لهؤلاء الاستفادة، بعد أخذ الإذن بالتغيّب عن الخدمة، من الفارق بين دولار صيرفة ودولار السوق السوداء للحصول على بعض الأموال الإضافية إلى رواتبهم الهزيلة. مع العلم أنّ عون أكّد في اجتماع اليرزة “العمل على جمع مساعدات أخرى للجيش”، وأنّ النقاش بشأنها بلغ مراحل متقدّمة.
الترسيم: عون يَكسر الصمت
وجّه عون متمسّكاً بورقة “صمود الجيش” أكثر من رسالة إلى الداخل والخارج. وبدا لافتاً جدّاً فكّ قائد الجيش طوق الصمت حول موقف المؤسّسة من الترسيم البحري بعد إعلان رسمي سابق بـ “إنجاز الجيش مهمّته التقنيّة ووقوفه خلف السلطة السياسية في أيّ قرار تتّخذه”، ثمّ تسلّحه بالصمت طوال أشهر التفاوض إلى حين توقيع التفاهم البحري الاستراتيجي مع إسرائيل. فبالتزامن مع المناخات التي تحدّثت عن عدم رضى الجيش عن نتيجة التفاوض إلى حدّ رفض المشاركة بوفد عسكري إلى الناقورة، أكّد عون أنّ “إنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية سوف ينعكس إيجاباً على لبنان على الصعيدين الأمني والاقتصادي، ويتيح استثمار جزء أساسي من ثرواته الطبيعية”، مذكّراً بأنّ “الجيش أدّى دوره التقني المطلوب منه في هذا الخصوص على نحو كامل”، ومرحّباً بـ “إجماع السلطة السياسية على إنجاز هذا الملف”، من دون التطرّق إطلاقاً إلى رأي الجيش في ما توصّلت إليه المفاوضات التي جرت تحت سقف الخط 29 الذي دافع الجيش عنه بقوّة حين كان يتولّى التفاوض.
… وهكذا ردّ على اتّهام باسيل بالخيانة
داخليّاً، لم يقصّر قائد الجيش في توجيه رسائل مباشرة لا تحتمل التأويل بالتزامن مع رفع النائب جبران باسيل منسوب التصعيد ضدّ العماد عون إلى حدّ اتّهامه قبل أيام بـ “التفرّج على انقلاب أمنيّ سياسي كان يُعَدّ ضدّ العهد إبّان تظاهرات 17 تشرين”، متحدّثاً عن “خيانة من أهل البيت”، وسائلاً: “هل كان المطلوب من الجيش التفرّج؟”، مع تكرار رفضه القاطع لتعديل الدستور من أجل قائد الجيش.
هكذا، بلغة غير اعتيادية، دعا قائد الجيش “اللبنانيين إلى الوعي وعدم السماح باستغلالهم والانجرار وراء عناوين وشعارات مشبوهة، لأنّ الوطن يحتاج إلى جميع أبنائه”، داعياً في الوقت نفسه “أصحاب الشأن إلى التحلّي بالمسؤولية حفاظاً على المصلحة العامّة”.
وخاطب العسكريين قائلاً: “لقد شكّك كثيرون في قدرة المؤسسة على اجتياز هذه المرحلة، ووجّهوا إليها اتّهامات وانتقادات باطلة، وراهنوا على سقوطها وانتزاع محبّة اللبنانيين لها عن طريق استغلال بعض القضايا والأحداث. لكنّكم واجهتم هذا التجنّي بثبات وعزيمة”، وسمّى في خطابه “المشكّكين والمتّهِمين والمُحرّضين”.
عودة إلى خطاب آذار
أعادَت لهجة قائد الجيش التذكير بالخطاب العالي السقف الذي أطلقه في آذار 2021، والذي تقصّد فريقه الاستشاري يومئذٍ تسريبه إلى الإعلام، وذلك بالتزامن مع دعوة الرئيس ميشال عون إلى “فتح الطرقات فوراً” وفَتح باسيل النار على القائد (خلال تظاهرات 17 تشرين) بسبب اعتبار ما يحصل على الأرض “عملاً تخريبياً منظّماً يقصّر الجيش في التصدّي له”.
خلال تلك الحقبة، كما اليوم، لم يَحِد الجيش عن موقفه الثابت القائم على المعادلة التالية: “مع التعبير السلمي للمتظاهرين ولا فتح طرقات بالقوّة، بعدما وضعتم (السلطة السياسية) الجيش بمواجهة أهله وناسه، لكن مع خط أحمر هو منع المسّ بالسلم الأهلي ومنع الاعتداء على الأملاك العامّة والخاصّة”.
وَصَل أخيراً الأمر بالجيش إلى تأكيد رفضه، خلال مشاركته في الاجتماعات الأمنيّة، الوقوف بـ “النصّ” بين البنوك والمودعين المقتحمين للمصارف بقوّة السلاح، متمسّكاً بوضعية المؤزارة تقوي الأمن “حين تقتضي الحاجة”.
لم يكن خطاب آذار أقلّ من خطاب اليرزة يوم الخميس الفائت، فالظروف هي نفسها، لا بل تزداد تعقيداً: “هناك حملات سياسية ضدّ الجيش لأنّهم يريدونه مطواعاً بأيديهم، وهالشي بأيامي لا صار ولا رح يصير. وممنوع على أيّ كان التدخّل بشؤوننا، لا بالتشكيلات ولا بالترقيات ولا حتّى برسم مسار المؤسسة العسكرية وسياستها. وهذا الأمر يزعج البعض”.
تسكير “الدكاكين”
في المحصّلة، تصدّى قائد الجيش لمحاولات باسيل مدّ اليد إلى “صحن” الجيش، وهي سياسة اعتمدها عون مع كلّ “الدكاكين” التي كانت مفتوحة في اليرزة، أكانت “دكّانة” وفيق صفا أو “دكّانة” أحمد البعلبكي، حتى التعيينات في المواقع المهمّة والحسّاسة أمنيّاً اتّخذت طابعاً بعيداً عن “الإملاءات” السياسية.
لكن اليوم تتّخذ المواجهة، تحديداً مع باسيل، طابعاً أكثر حدّة مع فتح باب الانتخابات الرئاسية على مصراعيه، ومجاهرة باسيل برفض وصول قائد الجيش إلى بعبدا.
لسنا بالتأكيد أمام نموذج شبيه بنموذج جان قهوجي في التعاطي المكشوف مع الملفّ الرئاسي، فحتى الآن يُحافظ عون على الخيط الرفيع الفاصل بين مسؤوليّاته على رأس المؤسّسة العسكرية ووضعيّته كـ “مُرشّح طبيعي” ومؤهّل لرئاسة الجمهورية باستثناء فرضيّة “تطويع” الدستور لانتخابه رئيساً ووقوف كثيرين ضدّ تكرار تجربة العسكر في الحكم.