مرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر
ان يبدأ تحضير الظروف لنقل لبنان من مرحلة فوضى الانهيارات الى مرحلة استعادة الاستقرار، فهذا يعني انّه دخل في المرحلة الانتقالية. وهنالك عدد من الشواهد التاريخية التي تؤشر الى ظهور مفاجآت خطرة في المراحل المماثلة. ذلك انّ القوى السياسية الأساسية والمتكئة على قوى اقليمية، تعمل على تحسين شروط المعادلة الجاري تثبيتها للمرحلة المقبلة، وتعزيز حضورها ونفوذها.
ومن المفترض ان تشكّل الانتخابات النيابية لحظة الدخول في صلب هذه المرحلة الانتقالية والتي ستكون الانتخابات الرئاسية نهايتها، لتبدأ بعدها مرحلة إعادة بناء الصرح اللبناني.
في اختصار، فإن لبنان دخل المرحلة التي قد تختزن مفاجآت غير متوقعة. فمن المفترض ان تنتهي الانتخابات النيابية مساء الاحد المقبل. وخلافاً «للحرتقات» التي افتعلتها معظم اطراف الطبقة السياسية بهدف تطيير الانتخابات، الّا انّ القرار الدولي الحاسم والرقابة الصارمة التي مارسها جعلا من الاستحقاق النيابي مسألة لا مفرّ منها. وكي نكون اكثر دقة، فإنّ التفاهم الفرنسي مع «حزب الله» أمّن الإطار السياسي المطلوب لحصول الانتخابات في موعدها.
وفي موازاة ذلك تولّى الجيش اللبناني المهمّة الصعبة بضبط الساحات رغم استشراء الفوضى بين الناس، والوضع المعيشي الصعب لأبناء المؤسسة العسكرية. ويوم الانتخاب سيتولّى الجيش اللبناني إتمام العملية. حتى لو حصلت أحداث أمنية خارجة عن الحسابات ونتيجة الاحتقان السياسي الحاصل، الّا انّ العملية الانتخابية لن تتوقف، وهذا قرار متخذ.
وعلى سبيل المثال، يُحكى عن وجود نيات لدى بعض المتحمسين الحزبيين لإقفال الطرق في منطقة الطريق الجديدة في بيروت، لكن القرار هو بمنع الشغب في الشوارع، أضف الى ذلك، انّ قيادة تيار»المستقبل» أبلغت الى المعنيين أنّها سترفع الغطاء عن أي تحرّك مشاغب قد يحصل في الشارع.
وفي الوقت الذي سيعمد اللبنانيون إلى قراءة الأحجام الجديدة للقوى السياسية بعد صدور النتائج، فإنّ القوى الاقليمية ستعمد الى فرز الوان النفوذ الاقليمي لتوازنات المجلس الجديد ما بين ايران وسوريا والسعودية والعالم الغربي. فلكل مجموعة لونها وحجمها حتى ولو تداخلت في ما بينها في بعض المراحل. هنا تصبح الحسابات أكثر دقة. وقبل ان يلفظ المجلس النيابي الحالي آخر أنفاسه ومعه الحكومة الحالية، سيجري إمرار قرار رفع سعر الدولار الجمركي الى 10 آلاف ليرة في خضم الصخب الانتخابي. وهو ما يعني مزيداً من ارتفاع الاسعار في المرحلة المقبلة، إضافة الى زيادات اخرى ستأتي لاحقاً لتطاول اسعار الانترنت ومجالات اخرى، وهو ما سيرفع من مخاطر احتجاجات الناس في مرحلة ستشهد تقلّبات سياسية حادة.
فبعد الانتخابات النيابية سيأتي أولاً استحقاق انتخاب رئيس المجلس النيابي الجديد، وهو ما يعني كباشاً جديداً قاسياً ما بين الرئيس نبيه بري والنائب جبران باسيل، طالما انّ «القوات اللبنانية» حسمت موقفها بعدم انتخاب بري.
الواضح انّ بري لن يقبل إعادة انتخابه من دون تأمين الميثاقية المسيحية، وهو ما سيدفع باسيل الى فتح ابواب «البازار» معه. فليس خافياً على أحد سعي باسيل الى إعادة فرض نفسه في السباق الرئاسي.
الاتجاه الغالب ان بري لن يدخل في بازار كهذا، وهذا ما سيفتح إحتمال ترؤسه مجلس النواب على اساس انّه النائب الأكبر سناً، وهي ورقة الاحتياط التي يحتفظ بها في جيبه.
وقد لا يقتصر فشل «حزب الله» في إيجاد توافق حول هذا الملف فقط، فهنالك معضلة تكليف من سيتولّى تشكيل حكومة جديدة.
باسيل وعلى الأرجح بالتماهي مع رئيس الجمهورية، كان قد وجّه رسالة سلبية الى الرئيس نجيب ميقاتي. هو يرغب بحكومة سياسية يكون هو احد اعضائها وبرئاسة شخصية اخرى تردّد انّها جواد العدرا.
لكن «حزب الله» الذي يحيك مع الفرنسيين صورة المرحلة المقبلة ومعادلتها، لا يبدو متحمساً لاستبدال ميقاتي. وهذا ما سيؤدي ايضاً الى فتح القنوات الخلفية للتفاوض بين باسيل وميقاتي. الواضح انّ لباسيل مطالبه ايضاً، والتي تتمحور هنا حول التعيينات والإقالات. هي حسابات من المفترض ان تحاكي الاستحقاق الرئاسي وتمتين أقدامه اكثر في الادارة للمرحلة المقبلة. لكن لميقاتي حسابات اخرى، وتتعلق بإعادة تجديد حياة الحكومة الحالية واستبدال بعض الوزراء بشخصيات جديدة من دون المسّ بتوازناتها، وعلى اساس انّ المرحلة انتقالية وقصيرة ولا تستأهل الدخول في ورشة وزارية كبيرة ومتشابكة.
هذه الصورة تدفع الى الاستنتاج أنّ احتمالات الفشل في تأمين ولادة حكومة جديدة تبقى مرتفعة، وانّ الاتجاه الغالب هو لاستمرار الحكومة الحالية في مهمّة تصريف الاعمال وصولاً الى مرحلة الفراغ الرئاسي وهو ما سيحصل للمرة الاولى قبل التوصل لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في اجواء ساخنة، ولكن بعد الاتفاق على تسوية سياسية عريضة.
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون كان قد اعلن عن مبادرة حول الازمة في لبنان بعد انتهاء ورشة الانتخابات في فرنسا. وكانت السفيرة الفرنسية في لبنان قد أبلغت «حزب الله» وذلك في وقت سابق.
هذه التسوية والتي ستترافق مع احتقان الوضعين السياسي والاقتصادي وتردّي الوضع المعيشي في لبنان، وستضع باريس كلاً من الفاتيكان وواشنطن في أجوائها، وستواكبها كذلك مصر التي ستشكّل الغطاء العربي لها، ومن المنطقي ان يُعقد المؤتمر حول الأزمة اللبنانية في عاصمة عربية ستكون القاهرة، عوضاً عن باريس. هكذا حصل في مدينة الطائف السعودية وبعدها في العاصمة القطرية الدوحة. أضف إلى ذلك، انّ المظلة العربية التي ستؤمّنها مصر ستضمن المحافظة على هيكل «اتفاق الطائف» بحيث انّ ما سيُبحث سيدور حول تطبيق البنود التي لم تُطبّق من «اتفاق الطائف» مع إدخال تعديلات على بعض المواد الدستورية والتي لا تمسّ جوهر الاتفاق.
وتحت وزر الأزمة المعيشية التي قد تتفاقم في لبنان، سيؤدي إقرار التسوية السياسية في القاهرة تحت الرعاية الفرنسية إلى فتح ابواب المساعدات المالية، خصوصاً من الدول الخليجية. على ان يفتح ذلك الابواب امام انتخاب رئيس جديد للجمهورية مهمته الإشراف على خطة الإنقاذ الاقتصادي وإعادة بناء مؤسسات الدولة المدمّرة بمواكبة ورقابة مشدّدة، إلى درجة الوصاية على يد صندوق النقد الدولي ومن وراءه، والمقصود هنا الامم المتحدة.
قبل ذلك ستفتح نتائج الانتخابات النيابية الباب امام ترشيح حزب «القوات اللبنانية» رئيسه سمير جعجع لرئاسة الجمهورية للمرة الثانية. ومن المتوقع ان يحظى هذا الترشيح بدعم السعودية. وفي المقابل سيدعم «حزب الله» ترشيح سليمان فرنجية وسط كلام عن أنّ باسيل سيتمسك بأن يرشحه الحزب كرديف ايضاً.
لكن التسوية السياسية هي التي ستفتح ابواب قصر بعبدا، مع إعادة رسم المعادلة اللبنانية الجديدة، وتحديد الوظيفة السياسية المطلوبة من لبنان في المرحلة المقبلة، وبالتالي تحديد الشخصية السياسية القادرة على رعاية هذه الوظيفة.
ومن موقع جغرافي ليس ببعيد، سيجلس الرئيس سعد الحريري مراقباً كل المشهد ومنتظراً التسوية الاقليمية التي ستسمح له بالعودة الى لبنان.
في البداية سيعمل على تثبيت حضوره من خلال قياس مقدار تجاوب الشارع السنّي، وخصوصا البيروتي، مع مقاطعة الانتخابات النيابية. وبعدها سيعمل على تحضير نفسه للعودة الى لبنان، ولكن وفق توقيت اقليمي ينتظره بفارغ الصبر، وعلى أساس أنّه أثبت شرعية زعامته للشارع السنّي، وسط علاقة ممتازة بينه وبين ميقاتي.
انّها تشابكات المرحلة الانتقالية، والتي قد تفجّر مفاجآت غير محسوبة في أي لحظة. هذا ما علّمتنا ايّاه دروس التاريخ القريب والبعيد.
تبقى الامنية أن لا تطول المرحلة الانتقالية وان ندخل مرحلة استعادة الاستقرار في وقت غير بعيد.