
ماذا لو غادرت العمالة السوريّة الشرعيّة لبنان؟
في مفهوم العمال السوريين الذين يقبضون على المهن “الشاقة” في لبنان، فإن “الشباب اللبناني مدلّل لا يحبّ أن يتعب، ولا قوة بدنية لديه لذلك”، وبالتالي “يحتاج كل لبناني عاملاً سورياً لينجز مهمة”. أما من وجهة نظر الشباب اللبناني فـ “يقبل العامل السوري بأجر لا يوازي جهده، لا تهمّه بيئة العمل، في الورشة يضع فرشة، ومن الطعام يكتفي برغيف خبز وبيضة”. هذا ما يجعل مفهوم العمل برأيهم ينحدر إلى مستوى الـ “سخرة”، فتتفوق القوى العاملة السورية عددياً، لكنها تهدر حقوق العمالتين اللبنانية والسورية. فماذا لو فرغت السوق من هذه العمالة، هل صحيح أنه لن يقلع موسم، أو تكتمل ورشة، أو يصنع خبز؟
تطرح إشكالية العمالة السورية كلّما تجدّد الحديث عن عودة النازحين الطوعية إلى بلادهم، خصوصاً بعدما سقطت ذرائع الخوف من نظام الأسد. لتبرز الدعوة إلى الفصل بين من لديهم إجازات عمل شرعية، والمقيمين غير الشرعيين. فهل يمكننا فعلاً التمييز بين الفئتين حالياً؟
“عمل جبري” من فوق الطاولة ومن تحتها
يتّفق كلّ من كاسترو عبدالله رئيس نقابة عمال البناء ورئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين، مع رئيس نقابة عمال الأفران شحادة المصري على كون مسألة العمالة في لبنان شائكة جداً. فاليد العاملة اللبنانية برأي عبدالله “ماهرة وموصوفة، إلّا أن ما ينقصنا عملياً التدريب المهني، والأهم الحصانة الاجتماعية التي تتوفّر أولاً من خلال الأجور اللائقة والتقديمات وبالتالي تطبيق القوانين”.
غابت هذه الحصانة لأعوام، فاجتاحت اليدُ العاملة الأجنبية، وتحديداً السورية، مهناً كثيرة. وقد تفاقمت الظاهرة في محطات عديدة، خصوصاً مع تراجع حجم المساعدات الدولية المقدّمة للنازحين السوريين، فأتخمت السوق بجيش من العمال المكتومين، تحرّر تشغيلهم في ظلّ الفوضى السائدة من كل القوانين، وحتى من معايير العمل الدولية.
من تحت الطاولة يشغّل هؤلاء، وبمعظم الأحيان من دون كفالات أصحاب العمل. يقبلون بساعات عمل أكثر وبأجرة أقل، فرصتهم الأسبوعية أو المرضية على حسابهم، لا منح تعليم، ولا بدل نقل، وطبعاً من دون تسجيلهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وكل ذلك في ظلّ ظروف تهدّد صحة العامل وسلامته وحتى بيئة العمل. وهذا ما يعتبر في المعايير العالمية “عملاً جبرياً”، وضع لبنان عام 2023 وفق عبدالله، على لائحة المساءلة أمام لجنة معايير العمل الدولية، التي يوقّع لبنان على احترامها منذ العام 1977. فهل يعود مجدياً السؤال عن سبب تراجع العمالة اللبنانية في ظل هذه الظروف؟
الشاويش صار سلطان زمانه
لطالما شكل العامل السوري توأماً للعامل اللبناني نتيجة لامتداد الجغرافيا الذي سمح للطبقات السورية المهمّشة بأن تبحث عن لقمة عيشها في لبنان. إلّا أن الاعتماد على اليد “الماهرة” السورية في الزراعة أو البناء كان دائماً موسمياً. يحضر السوريون في شهر نيسان أو أيار، ومن ثم يغادرون وحدهم في شهر تشرين الأول أو الثاني. لم يكن عمل هؤلاء في مرحلة الوجود السوري في لبنان محصوراً بالإجازات. يكفي أن يكفلهم أحدهم لدى الأمن العام، حتى ينضمّوا إلى نظام الورش التي يديرها الشاويش وفقاً لأعراف متفق عليها مع صاحب الأرض.
مع نزوح السوريين إثر الأحداث التي شهدها بلدهم، تحوّل الشاويش “باشا زمانه”، ولم يعد يكتفي بإدارة ورش العمال الزراعيين، بل صار طموحه أيضاً ضمان الأراضي الزراعية وإدارة عمالة التجمّعات السكنيّة. ولأنّ السوري كما يقولون “شغيل ومش كسلان”، تفوّق الشاويش بقدرته على جمع الورش وتحديد أجرتها، ونوّع نشاطه بين مختلف القطاعات التي تحتاج إلى العمالة، فتفوّقت اليد العاملة السورية في مهن شاقة أخرى، مثل لمّ النفايات، أو النظافة عموماً، أو حتى في محطات البنزين، خصوصاً بعد تراجع أعداد العمال السودانيين والبنغلادشيين والمصريين بسبب الأزمة المالية.
إلّا أن الأخطر كان توسّع هذه العمالة لتجتاح قطاعات استراتيجية، قد ينعكس نقص اليد العاملة فيها على الأمن الغذائي، ومن بينها الصناعات الغذائية والأفران.
سيطرة تامة للعمالة السورية على قطاع الخبز
يسيطر العمال السوريون حالياً في قطاع الخَبز، بدءاً برغيف المرقوق إلى الكرواسون. إلّا أن المفارقة بحسب النقيب المصري، “أنه منذ صار عمال الأفران مشمولين بقانون العمل صرنا نسمع موال عدم توفر العامل اللبناني لإنتاج الخبز. تبدو هذه الادعاءات مجحفة، خصوصاً بحق من ذاعت بفضلهم سمعة الرغيف اللبناني في القارات الخمس منذ العام 1948”.
بحسب المصري “إن كارتيل الأفران يدّعي ذلك للتهرّب من تطبيق قانون العمل ومراكمة أرباحه. هم يريدون تخفيض الكلفة من أجرة العامل، فلجأوا إلى استخدام العمال المكتومين. وانطلاقاً من هنا لا تفصح الأفران سوى عن خمسة في المئة من عمالها لصندوق الضمان، بالإضافة إلى التهرّب من إجازات العمل”.
يشرح المصري “أن أجرة العامل تدخل عملياً في كلفة الرغيف الذي تحدّده وزارة الاقتصاد”. وعليه “يضيف أصحاب الأفران ثماني إجازات عمل وثماني إقامات وبطاقاتهم الصحية عليه مع أنهم لا يتكبّدون عملياً أياً من نفقات هذه الإضافات”. ووفقاً لدراسة أعدّت سابقاً وتم الاتفاق عليها في شهر أيلول من العام الماضي فإن الأجرة يجب أن تكون على إنتاج 25 كيس طحين في ثماني ساعات يومياً. فتغطي نفقات عشرة عمال، يتقاضى أربعة منهم وفقاً لمهماتهم 550 دولاراً، خمسة عمال 500 دولار بالإضافة إلى عامل نظافة يتقاضى 350 دولاراً. على أن يستفيد هؤلاء من يوم عطلة أسبوعية مدفوع الأجر. وبدل نقل يومي بـ 450 ألف ليرة. ويكون الضمان إلزامياً للعاملين اللبنانيين والسوريين.
أهملت الدراسة طبعاً بذريعة توسّع العدوان الإسرائيلي. في وقت “طفّشت” الأفران العمال اللبنانيين منها قبل ذلك بكثير، بحيث لم تعد نسبتهم تتجاوز العشرين في المئة من المعدمين الذين يعملون بظروف مشابهة لتلك التي تُخضع العامل السوري.
وعليه كلّما لاحت في الأفق موجة تطالب بعودة النازحين السوريين إلى بلادهم، تشاع المخاوف التي يختزلها السؤال “المسموم” “من أين ستأتون برغيف الخبز يا لبنانيين إذا لم يعد هناك عامل سوري في الفرن.” هذا في وقت يتمسك أصحاب العمل بمقولتهم المعتادة أن اللبناني لا يملك مهارة السوري، وأنه يريد أن يكون من خلال راتبه شريكاً لصاحب الفرن في أرباحه.
المي تكذّب الغطاس
طبعاً لا يحتاج وضع ستة أرغفة في كيس مهارة عالية، ولا الالتزام بوصفة العجانة والكميات التي تحتاجها من المياه والطحين والخميرة. “فنحن لا نخترع البارود” كما يقول سامر الصايغ، أحد أصحاب “فرن الجبل” في بشامون حيث نسبة العمالة في الفرن من اللبنانيين تصل إلى 95 في المئة، مع حفظ حقوقهم كاملة، ومن دون أن تخسر المؤسسة أرباحها”.
يؤكد الصايغ في المقابل “تلقّي فرنه مئات الطلبات يومياً من لبنانيين يرغبون في العمل. لكن طبعاً إمكانيات التوظيف في فرن واحد محدودة. فماذا لو أتيحت الفرص في أفران أخرى؟”.
يذكر المصري بواقعة حصلت في بلدية الغبيري التي طرحت الصوت حول عملية توظيف ستجري في أحد الأفران وكانت المفاجأة تلقيها آلاف الطلبات من العمال اللبنانيين في أقل من يومين. وانطلاقاً من هنا يرفض المصري أن يقال “إننا مهددون بلقمة الخبز إذا غادر السوري من لبنان. مذكّراً بأننا مررنا بأحداث صعبة، منذ العام 1975، ولا مرة أغلق فرن لأنه عانى من نقص في العمال”. من هنا يقول “لا خوف على رغيف الخبز حين يعود النازحون إلى بلدهم”.
ليس بالقوة البدنية وحدها ترتفع المباني
لا يختلف واقع الحال في قطاع البناء المحتكر حالياً من اليد العاملة السورية والفلسطينية. وفقاً لكاسترو عبدالله “فإن ميزة اللبنانيين في البناء مهارتهم وحرفيتهم”. شارحاً ما يتطلّبه التطوّر العلمي في قطاع البناء من كفاءات علمية إلى جانب القوة البدنية. وهذا ما يتميز به العامل اللبناني الذي يدفع به إلى خارج البلاد نتيجة لظروف العمل السيئة في لبنان”.
لا يطبّق قانون العمل على عمال البناء مع أنه قطاع يوازي بأهميته قطاع المصارف، وفقاً لعبدالله، وهو يستثنيهم مع عمال البلديات، الزراعة، وصيادي الأسماك. وكان يفترض أن تصدر مراسيم خاصة بهذه المهن، لكنها منذ سبعين عاماً لم تصدر. أما أكثر ما يستغربه عبدالله فهو عدم إلزامية تسجيل عمال البناء في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مع أن أجورهم الجيدة يمكن أن تغذي الصندوق بموارد جيدة.
ويشدّد عبدالله على “أن بيئة العمل السليمة للعامل اللبناني في قطاع البناء، من شأنها استعادة يده الماهرة للقطاع”. مذكّراً بآلاف العمال اللبنانيين الذين شاركوا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 في ورشة الإعمار من خلال شركتي “أوجيه” و “جينيكو” المملوكتين من آل الحريري، وكان احترام كبير لمعايير العمل حينها، خصوصاً أن العمل الإعماري ترافق مع أهداف سياسية. فهل تحترم المعايير متى انطلقت ورشة الإعمار المرتقبة في المرحلة المقبلة؟
ليس رفساً للنعمة ولكن…
لا يرفس اللبناني نعمة العمل إذاً، إنما يرفض أن يكون عمله بالسخرة ويريد أن يكون أجره موازياً لتعبه. ولكن “السخرة” تبدو قاسماً مشتركاً في مختلف المهن منذ بدء النزوح السوري إلى لبنان، حين أصبح فائض أرقام العاطلين عن العمل في صفوف النازحين، فرصة لاستغلالهم بأجور تدنت عن مستوياتها السابقة. فتمدّد هؤلاء نحو مهن كان يزاولها لبنانيون سابقاً خصوصاً في الأفران والصناعات، بالإضافة إلى اجتياحهم المهن الشاقة كالبناء والزراعة. لكنهم “تمسكنوا حتى تمكّنوا”. وباتت احتكارية هذه العمالة تؤمّن لهم الظروف الملائمة للمطالبة بتحسين أجورهم. ففاق بعضها أجر موظفي القطاع العام، والقطاع الخاص أحياناً.
بين البريستيج والحاجة
ثمة قلق يعرب عنه أصحاب العمل حالياً حول مستقبل مهن تدار باليد العاملة السورية، خصوصاً تلك الموسمية، وبالتالي يخشون من انعكاسات حالة الغموض التي تلفّ مستقبلها نتيجة سقوط نظام الأسد، خصوصاً مع المخططات التي يضعها جزء كبير من المقيمين غير الشرعيين للمغادرة إلى بلادهم.
برأيهم، فإن تراجع عدد اليد العاملة، سيرفع كلفتها. وهذا ما يعتبر وائل يحيى عضو نقابة سوق قب الياس لبيع الخضار بالجملة، أن المجتمع اللبناني يتحمّل مسؤوليته، لأنه لم يخلق للشباب بيئة تحمّس على العمل في المهن، وهو يعتبر أن “بريستيجه” لا يسمح بذلك.
ينطبق الحال على أسواق الخضار أيضاً، التي يتحدّث يحيى عن نموذج لها في قب الياس “حيث لم تعد عمالة السوريين مقتصرة على العتالة والكناسة، إنما ألحقت بها كل مهمات السوق، بدءاً بوصول شاحنة الخضار وتقبينها وحتى خروجها مقبّنة، فـ “أفسدتنا هذه العمالة النشيطة ونحن موضوع قابل لذلك”.
عودوا إلى بلادكم ولا تحملوا همّنا
هذه الإشكالية يؤكد رئيس تجمّع صناعيي البقاع نقولا أبو فيصل أنها قد لا تواجه قطاع الصناعات، خصوصاً أن نسبة اليد العاملة الأجنبية من عمال المصانع لا تتجاوز الثلاثين في المئة. وهؤلاء يعملون بشكل “مقونن” كما يؤكد أبو فيصل، لما تتطلّبه الصناعة من يد عاملة متدربة، توفر الاستقرار في إنتاجها.
يتحدث أبو فيصل طبعاً عن المعامل المرخّصة “وهناك ما يوازيها من المعامل غير المرخّصة، وفيها الداخل مولود والخارج مفقود”.
علماً أن القطاع ليس بمنأى عن اجتياحه من “عمال غير شرعيين” يمارسون المهنة تحت عنوان “الموسميين” خصوصاً في الصناعات الغذائية، حيث يبرز دور “الشاويش” مجدداً، الذي يحتكر كل المعلومات حول عماله، وقد لا تحصل إدارة المصنع حتى على بطاقة هوية لهم.
مع ذلك لا يبدي أبو فيصل قلقاً من أي تداعيات ممكنة لعودة النازحين إلى قطاع الصناعة. ويتحدث عن “خطوات استباقية اتخذتها بعض المعامل لتأمين التوازن في اليد العاملة الأجنبية، من خلال استعادة إجازات العمال الأجنبية وتنويعها. علماً أن بعضها أيضاً، بات يشغّل لبنانيين، يعملون بدوامات جزئية، إلى جانب وظائفهم في السلك الأمني والعسكري. ولذلك لن تخرب الدني متى بدأت رحلة عودة النازحين إلى بلادهم”. مشيراً إلى أن العمالة السورية تفشت في لبنان بشكلها الحالي منذ أحداث سوريا، بينما معاملنا نشأت وتطوّرت قبل هذا التاريخ بكثير، وكنا ندير أمورنا ونتدبرها من دون اعتماد كبير عليها”.