الكهرباء ومسألة توحيد الفاتورتين
الحكومة الحالية المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات حققت نجاحات مقبولة في مسائل عدة وفشلت في مسائل أخرى علماً أن الظروف السائدة في حينه لم تسمح بحلول مستدامة من النواحي المالية والاقتصادية والإدارية والتنظيمية والاجتماعية والأمنية وسواها وقبل أن نطرح المسألة موضوع البحث لا بدّ من إعطاء هذه الحكومة صفة الموظف الواقعي من الناحية القانونية وليس صفة تصريف الأعمال لأن رئيس الجمهورية السابق المنتهية ولايته بتاريخ 21/10/2022 أصدر مرسوم قبول استقالة الحكومة بتاريخ 20/10/2022 وبالتالي لم تعد الحكومة قانوناً موجودة ولم تعد أيضاً حكومة تصريف أعمال من الناحية الدستورية.
صحيح أن مرسوم قبول استقالة الحكومة لم يتم نشره لكن عدم النشر لا يلغي المرسوم علماً أن قرار المجلس الدستوري رقم المرسوم 1/ 2014 قضى بأن صلاحية عدم النشر تدخل ضمن الصلاحيات اللصيقة برئيس الجمهورية وحده دون سواه وما من شك بأن حكومة الموظف الواقعي مارست منذ شغور منصب رئيس الجمهورية، صلاحيات الحكومة العادية وقد استمرت بسبب الأوضاع القائمة وحالة الفراغ الكاملة والحاجة الماسة إلى حكومة مهما كانت تسميتها القانونية لإدارة الشؤون العامة في البلاد.
وكما أسلفنا القول، فالحكومة نجحت في التصدي لأزمات عدة ولو بالحد الأدنى المقبول، فسعر الصرف مستقرّ منذ أكثر من سنة ونصف والموازنة التي تمّ إقرارها أقرت سياسة مالية توازن بين النفقات والإيرادات مع الأمل بألا تنخفض النفقات وتتزايد الإيرادات كما يحصل دائماً بسبب ضعف ممارسة السيادة الداخلية السائدة منذ عشرات السنوات. كما أنها استطاعت أن تتكيّف مع حالة الحرب على الحدود الجنوبية علماً أنها المرجع المختص مع المجلس النيابي لتقرير حالة الحرب أو السلم وفقاً للنصوص الدستورية ذات الصلة بهذا الشأن ورغم أنها لم تتخذ أي قرار بشأن حالة الحرب.
الحكومة نجحت أيضاً في تسيير المرافق العامة بالحد المقبول، كما أنها أقرّت زیادات وعلاوات على رواتب الموظفين والمتعاقدين والمتقاعدين، ما جعل دورة العمل الإداري تسير ولو ببطء في كل الإدارات العامة دون نسيان المعاناة المستمرة لهؤلاء الموظفين والمتعاقدين والمتقاعدين بفعل انهيار سعر صرف العملة وتوقف المصارف عن إعادة الودائع إلى أصحابها.
لكن في المقابل، هناك مشاكل ما زالت تتفاقم وتتسبّب في معاناة مستمرة لعدد غير محدود من العائلات دون أن تتصدّى لها هذه الحكومة أو على الأقل تجد حلولاً موقتة لها.
ومن هذه المشاكل الاجتماعية أننا ما زلنا منذ سنوات طويلة ندفع فاتورتين للكهرباء مع فارق كبير في سعر الكيلواط بين كهرباء الدولة وهي التسمية الشائعة، علماً أن من يؤمّن هذا النوع من الطاقة الكهربائية في معظم المناطق اللبنانية هو مؤسسة كهرباء لبنان، وبين كهرباء المولّدات الخاصة. الدولة رفعت الدعم منذ أكثر من سنتين وأصبح السعر المعتمد من قبلها قريباً من الثمن دون أن تستطيع لغاية هذا التاريخ جني أي إیرادات أو أرباح بسبب التعدّيات على هذه الطاقة واستفادة مواطنين وأجانب من خدمات التيار الكهربائي مجاناً دون حسيب أو رقيب. ويقتضي أن نشير إلى أن ثمن الطاقة الكهربائية ليس ضريبة ولا رسماً بل هو سعر الخدمة مضافاً إليه هامش الربح المقبول علماً أن النصوص القانونية تحدّد مفهوم الضريبة والرسم والثمن بصورة واضحة.
في المقابل، ندفع فاتورة المولدات الكهربائية ويتقاضى أصحابها ثمناً مرتفعاً يؤمّن لهم أرباحاً متصاعدة منذ عشرات السنين دون أن يدفعوا أي ضرائب مقابل هذه الأرباح، لأن وضعهم القانوني غير مشروع وفقاً لقانون امتیاز مؤسسة كهرباء لبنان التي تملك الحق الحصريّ لتوليد ونقل وتوزيع التيار الكهربائي، لكنّ هذا القانون لم يعد مطبّقاً منذ أكثر من أربعين عاماً.
وعدا عن أنّ المولّدات تجني الأرباح الطائلة الصافية دون أي اقتطاع، فإنها تولّد الطاقة فقط وهي تستعمل تجهيزات الدولة وخطوطها لنقل وتوزيع التيار الكهربائي، وبالتالي فهي تدفع نفقات لقاء توليد الطاقة الكهربائية وتستفيد من خطوط الدولة لتوزيع ونقل التيار أي إنها مستأجرة ومنتفعة من هذه التجهيزات والخطوط دون أي مقابل ودون أي عقوبات رادعة.
الدولة دفعت على امتداد السنوات الماضية (وما زالت) مبالغ طائلة وخسائر باهظة متمادية لنقل وتوزيع التيار الكهربائي، والبعض يحلل أن هذه الخسائر شكلت سبباً أساسياً في انهيار الوضع النقدي وسعر صرف الليرة اللبنانية. واليوم الخسائر تكبر أكثر وأكثر والتحدّيات تزداد في كل المناطق اللبنانية بينما في المقابل أرباح مالكي المولّدات الخاصة تتصاعد وهم يتقاضون ثمن توليد الطاقة الكهربائية، ونسبة الجباية من قبلهم مئة في المئة دون أي تعدّيات، علماً أنهم لا يتكبّدون أي نفقات لنقل وتوزيع الطاقة لأنهم يستعملون تجهيزات الدولة في هذا الشأن.
وبعد هذا الشرح البسيط، هل من المقبول ألا تبادر الحكومة القادمة إلى ممارسة الصلاحيات المحددة لها وإبقاء الوضع المخالف كما هو عليه دون إيجاد الحلول المناسبة له وهي قادرة على ذلك في حال تم تطبيق قانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص الذي أقرّه المجلس النيابي منذ العام 2017 ولم يجد أي طريق لإمكانية التطبيق في أي من القطاعات التي تكلف الدولة مبالغ طائلة وتستهلك نفقات كبيرة من الموازنة العامة.
لقد كان الهدف من إقرار هذا القانون تحسين الخدمات العامة ومن بينها خدمات الكهرباء واستفادة المواطنين منها بأسعار تنافسية وبجودة أعلى وتخفيف النفقات العامة والحدّ من عجز الموازنة العامة، وذلك من خلال تحديد أصول المشاركة والتكامل والتعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص بما يؤمّن فرصاً استثمارية كبرى للشركات الخاصة تحت إشراف المجلس الأعلى للشراكة والخصخصة وهو مؤسسة عامة تم إنشاؤها خاضعة لسلطة وصاية رئاسة مجلس الوزراء والوزارات المعنية بالشراكة.
هذا المجلس غائب تماماً اليوم بسبب الظروف السائدة وكأنه غير موجود، فلا نسمع عن الاستراتيجية أو عن الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها ولا عن المشاريع التي يمكن أن تكون مجالاً لشراكة تكاملية بين القطاع العام والقطاع الخاص، ولا عن الخطوات الكفيلة والممكنة لتحقيق أي شراكة علماً أن مجلس الإدارة العائد له مؤلف وفقاً للأصول ويملك مؤهلات بشرية وفنية وتنظيمية تمكنه من القيام بالمهام المحددة لـه في قانون إنشائه.
باختصار الكهرباء اليوم مؤمّنة لكن ضمن نظامين، نظام تملكه مؤسسة كهرباء لبنان يخسر ويكبّد الدولة مبالغ طائلة وينفق على العاملين والتجهيزات التابعين له ويتكبّد خسائر فادحة ولا يؤمّن الخدمات بصورة كاملة.
وهناك نظام آخر يملكه أصحاب المولّدات الكهربائية الذين يؤمّنون خدمات مقبولة ولساعات طويلة ولكن بثمن مرتفع، وهم يربحون وقادرون على منع السرقات والتعديات (الأمر غير المتوفر في مؤسسة كهرباء لبنان) علماً أنهم يخالفون الامتياز الحصري المعطى للدولة لتوليد ونقل وتوزيع التيار الكهربائي وفقاً لقانون إنشاء مؤسسة كهرباء لبنان كما أنهم يستفيدون من تجهيزات الدولة وخطوطها لتوزيع ونقل التيار دون أن يسدّدوا أي عائدات للدولة لقاء هذا الانتفاع وأيضاً لا يدفعون أي ضرائب على الأرباح لأن وضعهم غير قانوني.
بالخلاصة، هناك شراكة واقعية بين الدولة وأصحاب المولّدات الذين يستعملون تجهيزات الدولة لتوزيع ونقل الطاقة وهي ممتدّة منذ سنوات طويلة يستفيد منها أصحاب المولّدات ويدفع المستهلكون ثمنها لهم دون أن تدخل في نفقات أصحاب المولّدات بل هي على عاتق الدولة.
المطلوب من المجلس الأعلى للشراكة والخصخصة أن يرفع إلى مجلس الوزراء تقريراً بهذا الواقع ويحدد الأصول المطلوبة لتحقيق الشراكة بين الدولة وأصحاب المولّدات الخاصة وفقاً لقانون الشراكة عام 2017 بما يؤمّن اعتماد نظام واحد لتوليد وتوزيع ونقل الطاقة الكهربائية، وبالتالي اعتماد فاتورة واحدة للكهرباء وبما يؤمّن أيضاً خدمة ذات جودة مرتفعة وكلفة أقل لكي لا تبقى الكهرباء عبئاً على الخزينة العامة وعلى المواطن كما هو الحال في الوقت الحاضر.