
بين لبنان وسوريا… ما هي الملفات الاقتصادية المشتركة؟
يواجه لبنان وسوريا مصيرَين متشابهَين، حيث يعاني كلا البلدين من صراعات مدمّرة من ناحية، ويسعيان لإرساء عملية تعافي وإعادة إعمار بقيادة حكومات جديدة من ناحية أخرى. في لبنان، يبقى التحدي الأكبر وضع حد للأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019 وإعادة الإعمار بعد التصعيد الإسرائيلي، وإرساء نهج اقتصاد سياسي مختلف. أمّا في سوريا، فسيتعّين على السلطات الجديدة أن تبدأ من الصفر لبناء نظام حكم جديد بعد نصف قرن من هيمنة حزب البعث و14 سنة من حرب مدمّرة.
ومن غير السليم، تحليليًّا وواقعيًّا، التعامل مع البلدَين بمعزل عن الآخر، حيث يرتبط مصير لبنان مباشرة بمصير سوريا، والعكس صحيح، ويرتبط كلاهما بمصير منطقة المشرق والمنطقة العربية ككلّ. وعلى الرغم من الخصائص المحلية لكل بلد، تتقاسم بلدان المنطقة مجموعة من القضايا المشتركة، كطرق العبور، والعلاقات الاقتصادية، والأزمات المشتركة، والصراعات وغيرها من المشاكل التي تتطلّب تفكيرًا تعاونيًا.
ارتباط اجتماعي
يتخطّى الترابط التاريخي ما بين لبنان وسوريا المستوى الاقتصادي، ويتضمّن علاقات ثقافية واجتماعية وحتى عائلية، تأسّست منذ ما قبل السلطنة العثمانية، حيث المصاهرات العابرة للحدود وغيرها من العلاقات الاجتماعية والثقافية.
ديموغرافيًّا، شهد البلدان تنقّلًا مستمرًّا لسكّانهما عبر الحدود في الاتجاهَين. من ناحية، استفاد لبنان تاريخيًّا من القوى العاملة السورية، حيث عمل حوالي مليون شاب في القطاعات الإنتاجية في لبنان، وخصوصاً في مجالات الزراعة والبناء والصناعة قبل اندلاع الحرب في سوريا، بينما استفادت العائلات ذات الدخل المحدود في لبنان من الخدمات الصحية والتعليمية بأسعارٍ منخفضةٍ في سوريا.
ويشير أستاذ الاقتصاد المتخصص في اقتصاديات العمل والديموغرافيا، علي عبّود، إلى أنّ طبيعة العلاقة الشعبية بين البلدَين تغيّرت جذريًّا بعد 2011، حيث تحوّل الوجود السوري في لبنان من وجود يغلب عليه الطابع الشبابي العمّالي، إلى تواجد عائلي يشمل عائلات بأكملها.
أمّا سكّان المناطق الحدودية بين البلدين، فان العلاقات التي تجمعهم تعود إلى ما قبل تأسيس لبنان وسوريا في الأصل، وما يطلق عليه الكثيرون اليوم “التهريب” هو فعليًّا علاقة تجارية وعضوية بين سكّان الحدود.
تعاون اقتصادي ضروري
تجمع البلدَين، بحكم التقارب الجغرافي، علاقات اقتصادية مباشرة، إذ لطالما كان الترانزيت مجالًا محوريًّا يرتبط فيه اقتصادا البلدَين. لا تزال سوريا تشكّل طريق التجارة البرية الوحيدة للبنان ومركز عبور استيراد الطاقة، كما تبقى الشريك التجاري الرئيسي للبنان.
وفيما يتعلق بعملية إعادة الإعمار، هناك العديد من الملفات المشتركة بين لبنان وسوريا. تشير استاذة الاقتصاد المختصة في التنمية الاقتصادية الكلية، نادين يموت، إلى أن استقرار سوريا وإعادة دمجها في التجارة الإقليمية والعالمية من شأنه أن يخفف العديد من الضغوط على الاقتصاد اللبناني.
وهنا، تبقى العقوبات على سوريا مسألة أساسية لها تبعات وخيمة على قدرات الاقتصاديَن اللبناني والسوري في التعاون، ومن المرجّح أن تؤثّر بطبيعة الحال على قدرة سوريا من ناحية إدخال المساعدات الدولية المخصّصة للتنمية والتدخلّات الإنسانية، وقدرة المموّلين الدوليّين على إصدار حزمة مساعدات ذات طابع إقليمي أو مشترك بين البلدين أو على صعيد المنطقة.
ومن شأن رفع العقوبات عن سوريا أن يسمح للبنان باستيراد طاقة أوفر، الأمر الذي قد يساعد لبنان في صعوباته لتأمين الكهرباء، كما يساعد الاستقرار في سوريا أيضًا في خفض المخاطر الأمنية المرتبطة بالتجارة عبر الحدود، وبالتالي، أن يعود بالنفع المباشر على الشركات والصناعات اللبنانية.
يبقى قطاعا التجارة والنقل نقطتَي تعاون أساسيّتَين. كانت للسنوات الأخيرة في سوريا عواقب وخيمة على تعطيل سلاسل التوريد وارتفاع تكاليف التصدير في لبنان.
أمّا بالنسبة إلى سوريا، فيبقى مرفأ بيروت القناة الرئيسية التي يتم من خلالها استيراد البضائع المتجهة إليها. وتشير الدكتورة يموت إلى إن عمليّة إعادة الإعمار تشكل قطاعاً محتملاً آخر للتعاون بين البلدين. ومع دخول سوريا مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب، من الممكن أن تلعب الشركات اللبنانية دوراً مهماً، مستفيدة من قربها الجغرافي وخبرتها في تطوير العقارات.
ويبقى لقرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوقف المساعدات الإنسانية والتنموية، كما لقرارات عدد كبير من الدول الأوروبية بخفض الميزانيات المخصصة للمساعدات كالمملكة المتحدة وهولندا وغيرها، تأثير هائل على إمكانيّات إعادة البناء والتنمية في كلا البلدَين، في انتظار ملامح النظام العالمي الجديد للمساعدات.
في ظلّ تطلّع حكومتَي لبنان وسوريا إلى شركاء إقليميّين وعالميّين في عمليّة النهوض الاقتصادي، يشير الدكتور عبّود إلى أنّ خيارات الحكومتَين العلاقوية أساسيّة هنا. بالنسبة لسوريا، تبقى تركيا شريك أساسي (وربّما الأهم) للحكومة الجديدة، ويتضمّن ذلك خطوط التجارة والنقل وغيرها. ما بين التجارة المباشرة والاختيار بين خطوط نقل شمالية-جنوبية أو شرقية-غربية، قد تأثّر العلاقة التركية-السورية واستراتيجية الاندماج الإقليمي لسوريا على آفاق التعاون الاقتصادي بين لبنان وسوريا، بحيث تقلّل أو تزيد من الاعتماد على الآخر.
الودائع السورية في لبنان
مع الانفتاح الاقتصادي النسبي الذي شهدته سوريا في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اتجهت المصالح التجارية اللبنانية الخاصة إلى سوريا، ومن بينها البنوك اللبنانية التي افتتحت فروعًا لها مستفيدة من التعداد السكاني الكبير في سوريا.
حتى اليوم، وبعد الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان وغياب السيولة، لا يزال جزء كبير من الودائع السورية محتجزاً في البنوك اللبنانية، كما هو الحال مع غيرها من الودائع. لا تزال هوية أصحاب هذه الودائع غير معروفة، سواء كانت لأشخاص مستقلين أو لأزلام حزب البعث، ويشير عبّود إلى مسألة مشابهة حدثت ما بعد سقوط نظام البعث في العراق في بداية العقد حيث أودع العديد من أموال أعضاء الحزب في البنوك اللبنانية.
تبقى الودائع السورية أحد المسائل الشائكة في المرحلة القادمة وترتبط بمصير النظام المصرفي في لبنان، أن التعامل معها مشروط بما إذا كانت الحكومة الجديدة وحاكم المصرف المركزي كريم سعيد، سيشرعان في إعادة هيكلة القطاع المصرفي والإصلاحات المتعلقة بالشفافية والتي تشمل إلغاء قانون السرية المصرفية.
التهريب وترسيم الحدود
لا شكّ أن أحد الأمور الأساسية على المستويَين السياسي والاقتصادي بين البلدين اليوم هو ضبط الحدود، خصوصًا مع تطوّرات الأسابيع الأخيرة. تبقى الحدود غير المرسمة سبب أساسي للإشكالات والحساسيّات على المناطق الحدوديّة. على كلا الدولتين بحكومتهما الجديدة العمل بشكل استباقي على حل مشكلة الحدود ديبلوماسيًّا، وبشكل يتطرّق للتفاصيل المحليّة الضيّقة. يتضمّن ذلك العقارات الشخصية، وتقسيم ومشاركة مصادر المياه النهرية، وغيرها من الإشكالات التي تساهم في تفاقم الحساسيًّات المحليّة المزمنة.
من هنا، على الدولتَين تأمين بدائل اقتصادية عن التهريب لسكّان الأطرف والمجتمعات الحدودية، خيار القضاء على التهريب أمنيًّا من غير تأمين البدائل هو بمثابة القضاء على معيشة جزء كبير من سكّان الحدود، لا سيّما مع التخلّي التاريخي للدولة والمؤسسات الرسمية عن الاعتناء بهذه المناطق وتقديم الخدمات الأساسية اللازمة لنهضتها واندماجها في المخطّطات الوطنية بحيث يتمّ تعزيز الانتماء الوطني لمجتمعاتها.
بناء على ذلك، يبقى على حكومتَي البلدين أن تؤمنا خطط إنعاش اقتصادي وأنظمة حماية اجتماعية صلبة تؤمن من جهة فرص عمل لائقة لسكّان الحدود في لبنان، ومن جهة ثانية فرصة للاجئين السوريين الذين أسسوا معيشتهم في لبنان أن يتمكّنوا من العودة إلى سوريا وتأمين فرص المعيشة الضرورية هناك.
أمّا على الصعيد الإقليمي الأوسع، على بلاد المنطقة النظر بشكل جماعي إلى مصالحها الاقتصادية ومجالات التعاون المحتملة بشكل أوسع من المنظور الإصلاحي الوطني الضيّق والمنعزل.
فكما يلفت عبّود إلى أنّه “لا يمكن للبنان أن ينمى لوحده، لا يمكن لسوريا أن تنمى لوحدها”. و”يجب أن يكون هناك مفهوم التنمية المشتركة بين هذه البلاد… وما هي منفعة توسيع مرفأ طرابلس إن لم يكن موصولًا بحمص؟ وما هي منفعة إنشاء سكّة حديد بين الساحل اللبناني والداخل السوري إن لم يكن هناك منطلق للعراق وتركيا والأردن؟”