
إخراج القيد يتحوّل إلى باب سمسرة: 60 دولاراً للفرد!
في بيروت كما في بعلبك وعكار والنبطية، تحوّلت خدمة “إخراج القيد” من معاملة روتينيّة وحقٍّ مدنيّ لا يُكَلِّف المواطن أكثرَ من طابع رسميٍّ (بقيمة 4 دولارات)، إلى باب واسع لما سُمِّيَ بـ”السمسرة المقنّعة”. إذ ضجّت وسائل التواصل الاجتماعيّ في الأسابيع الماضية بشهادات مواطنين تكبّدوا مبالغ تتراوح بين 40 و60 دولارًا لاستحصال هذا المستند، تارةً بذريعة حاجة المختارين والموظفين إلى بدل أتعابٍ “لوجستيّة”، وطورًا لتسريع خدمة استخراج المستند وتوفير الطوابع. ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية دقيقة عن عدد الشكاوى، فإنّ الموضوع أثير على المواقع الافتراضية مرارًا.
سمسرة مقنّعة وسوق سوداء
لم يكن المشهد ليتغيّر لولا قرار الحكومة في موازنة 2024 (القانون رقم 324/2024)، برفع رسم إخراج القيّد الفرديّ والعائليّ إلى 400 ألف ليرة بدل 20 ألف، استنادًا إلى المادة 66. وعلى وقع هذا الارتفاع، جرى في مطلع عام 2025 إطلاق خدمة “إخراج القيد الإلكترونيّ” بجهود المديريّة العامّة للأحوال الشخصيّة، الّتي وفّرت نموذج طلب وفيديو توضيحيين على موقعها الرسميّ، وأصدرت تعميمًا يسمح للنازحين داخليًّا بالحصول على بيان قيدٍ فرديّ من دون الحضور الشخصيّ، مؤكدةً مجانيّة الخدمة واكتفائها بالطوابع النظامية.
إلاّ أنّ هذه التسهيلات اصطدمت بواقع مختلف على الأرض، إذ اضطرّ المختارون إلى تأمين الطوابع نفسها من أسواق سوداء ترفع الأسعار بنسبة 20–30% فوق قيمتها الرسميّة، بفعل شحّها في المصرف المركزي ومنافذ البريد. ولم تردع إجراءات وزارة الماليّة، الّتي طبعت عشرة ملايين طابع جديد في آذار 2024 ثم طرحت خمسة عشر مليون طابع إضافي من فئة 20 ألف ليرة في تموز من العام نفسه، المضاربين؛ فقد ظلّ توزيع الدولة “فتاتًا” لا يلبّي حجم الطلب، ما منح السماسرة المموّهين مجالًا أوسع لرفع أسعار الطوابع وانتزاع مبالغ إضافية بالدولار أو عبر تطبيقات ماليّة.
وما جعل الأزمة الإداريّة أكثر تعقيدًا هو أوضاع المختارين الاقتصاديّة، الذين تحولوا إلى مُعقبي معاملات في السّنوات الأخيرة بدلًا من أداء دورهم المنصوص عليه في القانون. فإنّ القانون لا يجيز لهم أجرًا أو راتبًا ويُفرض عليهم العيش من أموالهم الخاصّة أو من أعمالهم الخاصّة، ولا توجد تسعيرة رسميّة للمعاملات الّتي ينجزونها؛ فيما يحقّ لهم بدل ضيافة قيمته 500 ليرة لبنانيّة (نحو الخمسة دولارات شهريًّا) لقاء فتح بيتهم للزوار، ويدفع المختار من جيبه ثمن الطوابع والورق والحبر، لكنه مع ذلك لا يُكلّف نفسه أعباءً مالية عن مكتبه أو موظفيه، ولا يخضع مردوده لأيّة ضرائب. اليوم صار بعض المختارين يتقاضون تعرفةً عن خدماتهم وإنّ لم تكن شرعيّةً أو محدّدةً من قبل الدولة، حيث يتبرّع المواطن بما يشاء.
إلّا أن هذا التبرع تحول عند البعض منهم إلى نوعٍ من التجارة، إذ يتباهى بعض المختارين بعلاقاتهم في الدوائر، قائلين إنهم يضمنون تسليم “إخراج القيد” في ساعات معدودة بدل أيام، ويتلقّون من المواطنين رغم ذلك ما بين 50 و60 دولارًا لقاء “خدمة سريعة”، وفق توثيق حماية المستهلك في شباط وآذار 2025. وبذلك يتكبّد المواطن أعباء مالية إضافية تفوق 200–300% على قيمة المعاملة الرسميّة. الأمر الذي يزيد من معاناة الأسر الفقيرة حيث تنتهك هذه الممارسات الدستور اللّبنانيّ (المادة 7)، الذي يكفل المساواة أمام القانون، إذ يجد غير القادرين على الدفع مضطرّين للانتظار الطويل، ما يعرقل إجراءاتهم الدراسيّة والمهنيّة في بعض الأحيان. كما تُضعف الثقّة بالمؤسّسات الرسميّة وتطفئ بريق جهود الإصلاح الرقميّ في قطاع الأحوال الشخصيّة.
والحال أنّه لا خلاص من هذه “السمسرة المقنّعة” إلّا بحصر الرسوم ضمن الطوابع الرسميّة، وإغلاق منافذ السّوق السّوداء عبر تشديد الرقابة والتوزيع العادل للطوابع، وتعميم المنصات الرقميّة الّتي من شأنها أنّ تضمن إنجاز المعاملات بسرعة ومجانًا وفق الأطر القانونيّة.