العباءة السعودية والمخاطر السورية

العباءة السعودية والمخاطر السورية

الكاتب: جوني منيّر | المصدر: الجمهورية
13 كانون الثاني 2025
كان من الطبيعي أن يعتمد الرئيس العماد جوزاف عون المملكة العربية السعودية كأول محطة خارجية له لأسباب عدة، منها ما يتعلق بالعلاقات المميزة بين البلدين، إضافة الى الجهد الكبير الذي تولّته الرياض لتأمين حصول الإنتخابات الرئاسية، وأيضاً الدور الذي ستتولاه المملكة في مساعدة لبنان إقتصادياً. لكن ثمة جانباً إضافياً لا يقلّ أهمية ويتعلق بالتعقيدات الإقليمية والدور الذي يمكن للسعودية أن تلعبه لتعزيز شبكة الحماية الإقليمية للبنان.

لكنّ الزيارة الخارجية الأولى لعون يجب أن يسبقها تشكيل الحكومة. ذلك أنّ رئيس الجمهورية سيصطحب وفداً من الوزراء المسؤولين عن المجالات التي سيجري توقيعها عبر أكثر من 20 إتفاقية أكانت إقتصادية أم سياحية أم إنمائية. وبالتالي فإنّ الجهد في الأسبوعين المقبلين سيتركّز حول ضرورة إنجاز الطبخة الحكومية بالسرعة المطلوبة، على أن تولد قبل نهاية الشهر الجاري كحدّ أقصى.

وفيما يبدو أنّ إعادة تكليف الرئيس نجيب ميقاتي هي الفرضية الأكثر رجحاناً، إنسجاما مع تفاهمات كانت باريس قد نسجتها في مرحلة سابقة وفي عزّ العدوان الإسرائيلي، واستجابة “للتطمينات” التي طلبها الرئيس نبيه بري في الإطار الحكومي. يومها تولّى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون نفسه التواصل مع السعودية لإزالة أي اعتراض على هذه العودة.

وعلى رغم من الإتفاق على التعجيل في ولادة الحكومة إلّا أنّ الصيغة الحكومية لم تُحسم بعد في انتظار التكليف الرسمي، ولو أنّ المؤشرات تدل إلى أنّها تترجح بين خيارين: الأول يتحدث عن حكومة موسعة تلحظ وجود عدد من النواب يمثلون الكتل النيابية الأساسية ويتولون مواقع وزراء دولة ومعروف عنهم مرونتهم وانتماؤهم الناعم، إضافة إلى شخصيات أخرى تتولّى الحقائب الوزارية ومعروف عنها استقلاليتها ولو بالحدّ الأدنى، هذا في حال الموافقة على منح ميقاتي صلاحيات استثنائية لمدة 6 اشهر. والثاني يتحدث عن حكومة خالية من أي انتماء سياسي مباشر ويمتنع أعضاؤها من الترشح إلى الإنتخابات النيابية، كون هذه الحكومة ستشرف على هذا الإستحقاق ربيع العام 2026. وعلى رغم من وجود ميل واضح إلى الصيغة الثانية الّا أنّ حسم الخيار ينتظر مشاورات رئيس الحكومة، علماً أنّ رئيس الجمهورية يحبذ الفصل بين الوزارة والنيابة.

ومن المفترض أن يكون برنامج عمل هذه الحكومة مرتكزاً على التأسيس لمرحلة الإنطلاق الفعلية، والتي ستتولاها الحكومة المقبلة أو حكومة ما بعد الإنتخابات النيابية. وبخلاف كل التشويش والجدل الصاخب الذي تصدّر المرحلة الماضية، فهنالك حرص على الدور الفاعل للطائفة الشيعية، وبالتالي ليس هنالك استهداف أو تهميش بل شراكة كاملة وحقيقية. ذلك أنّ إعادة العلاقات الإيرانية مع لبنان من الدرجة الإستثنائية الى العادية والطبيعية لن يعني أبداً ولا بأي شكل من الأشكال “محاصرة” الدور السياسي للطائفة الشيعية في لبنان.

وكان قد تردّد سؤال في الأروقة السياسية خلال المرحلة الماضية حول “فقدان” الدور الأميركي الفاعل في مقابل “ظهور” الدور السعودي الكبير. في الواقع كانت واشنطن على تنسيق كامل وتام مع الرياض، والتي جاءت خطواتها بالتنسيق الكامل بينهما. لكن لوقوف واشنطن خلف الستارة أسباب عدة أبرزها على الإطلاق أنّها لا تريد المقايضة مع الفريق الشيعي في لبنان حول أي أثمان سياسية لقاء السير في الإنتخابات الرئاسية، بعدما شعرت بوجود رغبة شيعية ضمنية في هذا الإتجاه. وفي الوقت نفسه كانت تحبذ من خلال إبراز الدور السعودي مباركة دور المرجعية الإقليمية التي باتت تتولاها المملكة. وهنالك جانب آخر بأنّ الثمن الوحيد الممكن تقديمه هو ثمن إقتصادي وإعماري للمناطق المنكوبة جراء الحرب. وهذا ما يدفع إلى الإستنتاج بوضوح بأنّ أي تعديلات سياسية أو دستورية لن تحصل، لا بل إن “الأعراف” التي تمّ إدخالها إلى الحياة السياسية في لبنان منذ اتفاق الدوحة سيجري تجاوزها ووضعها جانباً.

وثمة مصلحة لبنانية من الزاوية الإقليمية في الدور السعودي الجديد. فعلى مقربة من لبنان انفجر بركان لا يزال يقذف بحممه حتى الآن، وهو أكبر بكثير من قدرة لبنان على تحمّله. ذلك أنّ البسطاء وحدهم يعتقدون أنّ المخاطر في سوريا انتهت. وفي الواقع قد تكون ابتدأت الآن. فليس خبراً أمنياً عادياً ما أعلن عن اعتقال خلية لـ”داعش” كانت تستعد لتفجير مقام السيدة زينب جنوب دمشق. ومبعث القلق ليس فقط حساسية الهدف المستهدف بل خصوصاً من الذي يقف فعلاً وراء هذا العمل. فالجميع بات يعلم أنّ خلايا “داعش” تحركها خيوط خارجية متعددة ومتناقضة، بهدف توظيف أعمال “داعش” من ضمن مصالحها السياسية. وهنا يأتي السؤال حول المطلوب من المرحلة المقبلة، خصوصا أنّ لبنان يبقى أسرع المتأثرين بأي تطورات في سوريا.

وبسبب القلق من الوضع الأمني الغامض، أعلن العراق عن زيادة مساحة الجدار العازل عند الحدود مع سوريا لـ 83 كلم إضافياً، للحدّ من أي تأثير سوري على الداخل العراقي. وهذه الإجراءات هي الأولى من نوعها منذ سقوط صدام حسين.

وهذه الإشارة الأمنية الخطيرة تترافق مع صراع كبير للمصالح بين القوى الإقليمية. صحيح أنّ معظم القوى الإقليمية إتفقت ولا تزال على إنهاء مشروع إيران الإقليمي، الّا أنّ مسألة وراثة الإرث الإيراني والتداعيات الناتجة منه لم تُحسم بعد.

ففي مصر عقُدت قمة مصرية ـ قبرصية ـ يونانية وسط تباينات جديدة في العلاقات التركية ـ المصرية. فعدا التغلغل التركي في القرن الأفريقي هنالك طموح تركي للسيطرة على شرق البحر المتوسط إنطلاقاً من التطورات السورية التي عززت هذا الخيار. ولذلك أجرت تركيا مناورات في بحر إيجه والبحر المتوسط، وهو ما اعتبرته اليونان وقبرص بمثابة رسالة لها. مع العلم أنّ لمصر مصالح نفطية مباشرة أيضاً.

وفي هذا الوقت تندفع العواصم الغربية في وضع “شروطها” قبل الشروع في رفعها المتدرج للعقوبات. ومن المطالب الغربية، تشكيل حكومة تشاركية تضمّ مختلف أطياف المجتمع السوري الطائفية والإتنية. إضافة الى ضرورة اعتماد اللامركزية السياسية وصولاً إلى الإدارة الذاتية. وكذلك الذهاب الى الدولة المدنية من خلال البرامج التعليمية ومنح الحرية للمرأة…

في هذا الوقت تبدو إدارة ترامب وكأنّها تستعد للدخول في مرحلة صاخبة داخلياً وعلى مستوى القارة الأميركية. صحيح أنّها ستخصص انطلاقة سريعة لمعالجة الملف الإيراني، لكنها تتّجه للدخول في مشكلات داخلية ظهرت أولى بوادرها مع الحكم الذي يتلقاه أول رئيس أميركي منتخب، وإضافة إلى ورشة كبيرة وخطيرة تتعلق بطموحات ترامب حول ضمّ كندا وقناة بنما إضافة إلى ضمّ غرينلاند، وهو ما سيدخلها في نزاع مع أوروبا. ومعنى ذلك أنّ واشنطن ستغيب مجدداً عن مسرح الشرق الأوسط، وبالتالي ستعود إسرائيل مطلقة اليدين مع سيطرة جمهورية على الكونغرس تؤمّن لها الدعم المطلوب من بعيد.

وهنا تبرز أهمية العباءة السعودية للبنان للمرحلة المقبلة. فالحضور السعودي الوازن نتيجة عوامل عدة ترتكز على قوة إقتصادية إستثنائية، في وقت ترزح دول المنطقة تحت أعباء إقتصادية كبيرة، كل ذلك يمنح السعودية دوراً كبيراً يمكن للبنان أن يستفيد منه. تكفي الإشارة إلى تفاقم الأزمة الإقتصادية والحياتية في إيران، وهو ما أدّى الى إنقطاع للكهرباء ما حتّم إغلاق بعض المباني العامة في العاصمة ومدن أخرى.

والإجتماع الذي عُقد لوزراء خارجية بعض الدول العربية في السعودية بمشاركة وزير الخارجية التركي للبحث في الملف السوري، يعطي فكرة عن ميزة الدور السعودي. صحيح أنّ هنالك نقاط خلاف عدة بين الرياض ودمشق إلّا أنّ هنالك أيضاً عدداً من القواسم المشتركة من بينها النظرة الى إيران. وبالتالي فإنّه لا بدّ أن تكون من أهداف الزيارة الرئاسية اللبنانية الأولى إلى السعودية، تبديد الصورة السلبية التي طبعت في أذهان الخليجيين عن لبنان.

وفي كتاب لوزير الخارجية اللبناني السابق إيلي سالم، والذي خدم خلال عهد الرئيس أمين الجميل والذي سيصدر قريباً، روى سالم حادثة معبّرة جداً جرت معه في العام 1983. ويقول بأنّه ومع قيام سوريا بمدّ الداخل اللبناني بالسلاح تحضيراً لتوجيه ضربة عسكرية للرئيس الجميل المتحالف يومها مع واشنطن، عرض وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز إمكانية تحريك تركيا ضدّ شمال سوريا بهدف ردع حافظ الأسد عن اللعب بالإستقرار اللبناني الذي كان قائماً. إلّا أنّ سالم رفض الفكرة فوراً ربما خشية إثارة سوريا أكثر.

والعبرة من الحادثة هي مدى ترابط الأحداث والجبهات والتناقضات في الشرق الأوسط المعقّد، وهنا تبرز أهمية التركيز على التطورات السورية.