
وثيقة مسرّبة: مناورة مصرفيّة ضد رفع السريّة المصرفيّة
الوثيقة المكتوبة، تعبّر عن أهداف اللوبي المصرفي من الضغوط التي مارسها على النوّاب قبل المصادقة على مشروع القانون في اللجان المشتركة. كما تعبّر عن أهدافه الحاليّة، من الضغوط الإعلاميّة والسياسيّة التي تُمارس، كي لا تتم المصادقة على مشروع القانون في الهيئة العامّة للمجلس بصيغته الراهنة. مع الإشارة إلى أنّ اللجان المشتركة كانت قد صادقت على مشروع القانون بأقرب صيغة ممكنة لتلك التي أعدتها الحكومة، وهو ما أثار حفيظة اللوبي المصرفي الذي يحاول خوض آخر معاركه لضرب القانون في الهيئة العامّة للمجلس. ماذا تريد جمعيّة المصارف بالضبط؟
ضرب نطاق التدقيق
تقول الوثيقة، المليئة بالأخطاء النحويّة والمغالطات الاقتصاديّة، ما حرفيّته: إن إلزام المصارف بتقديم المعلومات المصرفيّة حول عملائها (بما فيها المعلومات الخاصّة حول أساميهم وحساباتهم وسائر الأمور المتعلّقة بهم) إلى المكلفين بإجراء تدقيق في حسابات المصرف غير مبرّر. فالتدقيق في حسابات المصارف لا تستدعي التدقيق في حسابات زبائنها.
ماذا تريد جمعيّة المصارف هنا؟ لفهم الهدف، يمكن العودة إلى وثيقة سابقة، صدرت عن الجمعيّة أيضًا، تعقيبًا على مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف. ففي ذلك النص، تحفّظت الجمعيّة أيضًا على فكرة العودة لاستعادة الأرباح التي جرى توزيعها سابقًا، في إشارة إلى عوائد الهندسات الماليّة المفرطة التي استفاد منها كبار النافذين والمصرفيين على حساب أموال المودعين الموجودة في مصرف لبنان. باختصار، لا تريد جمعيّة المصارف فتح دفاتر الحسابات المصرفيّة، للعودة إلى هذه الأرباح، ما يفتح باب استعادتها عند إجراء عمليّة إعادة الهيكلة.
من هذه الزاوية أيضًا، يمكن فهم معارضة اللوبي المصرفي لفكرة “المفعول الرجعي”، التي تتيح كشف داتا المصارف وعمليّاتها، للسنوات التي سبقت إقرار القانون. فالجانب الآخر من محاولة ضرب مفاعيل هذا القانون، تنطلق من محاولة شطب العبارة التي تعطي آثاره “المفعول الرجعي”، وهو ما يؤدّي إلى النتيجة نفسها: منع التدقيق بأسباب توسّع الفجوة قبل العام 2019، ومنع استعادة الأرباح التي أدّت إلى تعاظم الخسائر المصرفيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الليلة التي سبقت إقرار القانون في اللجان المشتركة، شهدت محاولات لحصر المفعول الرجعي بخمس سنوات فقط لا غير، وهو ما يغيّب عن أعين المدققين عمليّات الأعوام الممتدة بين 2015 و2019، والتي شهدت عمليّات الهندسات الماليّة.
تسخيف القانون
الوثيقة تحدّد بشكل واضح ما تريده المصارف: عدم خلط التدقيق في حسابات المصارف، بالتدقيق بحسابات الزبائن. وبعيدًا عن التعقيدات المحاسبيّة في العبارتين، المطلوب هو حصر التدقيق في الأرقام العامّة لميزانيّة المصارف، التي تظهر مثلًا قيمة الموجودات الثابتة، وحجم السيولة التي يملكها كل مصرف في مصرف لبنان والمصارف المراسلة، أو قيمة استثمارات المصرف في الخارج، وغيره. وبهذا الشكل، يبقى التدقيق بعيدًا عن الجانب الآخر من الميزانيّة، أي المطلوبات، وفيها أخطر ما يجب أن يشمله التدقيق، أي العمليّات التي جرت داخل حسابات كبار النافذين والمصرفيين. ومن هذه العمليّات مثلًا، أعمال تهريب السيولة التي جرت خلال فترة إقفال المصارف، والتي لا تزال موضوع تحقيق جارٍ في النيابة العامّة.
الوثيقة ترفض إعطاء المصرف المركزي ولجنة الرقابة حق رفع السريّة المصرفيّة، “بحجّة إعادة الهيكلة وممارسة حق الرقابة”، لكون جميع “مشاريع إعادة هيكلة المصارف تضمنت نصًا خاصًّا يتضمّن رفع السريّة المصرفيّة لأغراضها”. وبهذا الشكل، تحاول الجمعيّة ضرب الهدف الأوّل من هذا القانون، أي إعطاء هذه الجهات –مصرف لبنان واللجنة- حق رفع السريّة المصرفيّة كصلاحيّة أصيلة ومكتسبة بموجب قانون خاص. وفي المقابل، تريد جمعيّة المصارف إبقاء هذه الصلاحيّة مرهونة بالمناورات التي ستقوم بها، عند مناقشة قانون إعادة الهيكلة، مع ربط رفع السريّة بهذا المسار حصرًا (وليس بصفته حقًا أصيلًا لمصرف لبنان ولجنة الرقابة).
في أماكن أخرى، تطعن الوثيقة بهدف القانون مجددًا، حين تقول أنّ “التبرير المتعلّق بأعراض الرقابة، لا يستقيم”، إذا إنّ “الرقابة العامّة لا تستدعي عادة الاطلاع على أسماء الزبائن”، وهذا يفتح باب “تصيّد معلومات خاصّة لغير الغرض الذي منحت لأجله”. ومجددًا، يتضح أن جمعيّة المصارف تحاول التهويل، وإخافة النوّاب من عواقب إقرار قانون يسمح للمصرف المركزي ولجنة الرقابة بالدخول في تفاصيل داتا المعلومات، عند إجراء الرقابة العامّة في القطاع المصرفي وفقًا للصلاحيات الممنوحة لهما.
في النتيجة، لا تريد جمعيّة المصارف رفع السريّة المصرفيّة. وكل مضامين الوثيقة تدل على محاولات الجمعيّة تسخيف وضرب القانون وتفريغه من أهدافه. وحتّى إقرار القانون في الهيئة العامّة للمجلس، ستواظب الجمعيّة، ومعها اللوبي المصرفي بمعناه الأوسع، على الضغط بهذا الاتجاه. ولعلّ الحملات الإعلاميّة التي يجري شنّها حاليًا، ضد فكرة رفع السريّة، تتكامل مع مضمون الورقة التي عممتها جمعيّة المصارف على المصارف الأعضاء في الجمعيّة.