أريد أن أُدفن في لبنان وأحمل جنسيته…علاقة فنان فرنسي تجاوزت عشق شعب وأرض وبلد!
أريد أن أُدفن في لبنان، أن أكون صوته الفرنسي، أن أحمل جنسيته. أحلم في العيش في بيروت حتى في ظروفها الراهنة. لبنان صنع النسخة الفُضلى منّي، وأنا مدين له. أنا إنسان ينبض بالحياة في لبنان. منذ أن عرفته صرت أخاف أن أكذب، فلبنان طهّرني.
هو ببساطة شخص أجنبي لم يعرف لبنان سوى منذ عام. ومنذ أن وطأت قدماه أرض هذه البلاد، وجد فيها هويته الضائعة. مغامرة تجاوزت الحب يعيشها المخرج المسرحي، والكاتب الفرنسي أوليفيه سوتون. كان في لبنان مع اندلاع الحرب، وكتب رسالة حزينة على منصّاته، بدأها بكلمة “لبنان اِنهض”.
يروي سوتون قصة عشقه للبنان التي بدأت في 8 أكتوبر 2023، عندما زار لبنان لأول مرة في حياته. “يا لَه من موعد مضحك، 8 أكتوبر، للذهاب إلى الشرق الأوسط”، يستطرد في الرسالة. ويتابع:”سألني الناس، هل أنت متأكد من أنك تريد الذهاب؟”. سافر إلى بيروت بينما كثيرون، ومنهم لبنانيون، ألغوا رحلاتهم.
جاءت زيارته إلى لبنان باقتراح من صديق لبناني-فرنسي ليعرض مسرحيته على مسرح مونو-الأشرفية. لم يتردّد سوتون؛ هو الذي يحبّ المغامرات، فـ”القدر قدّم لي هدية اكتشاف لبنان”، يروي لـ”النهار”. لم يكن لبنان يوماً خياراً للسفر إليه، وكان يراه بلد حروب ومادة لنشرات الأخبار، عندما كان صغيراً.
“لم أكن أعرف شيئاً عن هذا البلد…لكن ليس هناك سعادة من دون مفاجآت. كنت أعلم أن شيئاً كبيراً ينتظرني…ما كان مؤكداً أن ما سيحدث لي في لبنان سيكون ذا طبيعة كونية؛ لا شيء أقلّ. وفي مرحلة ما، اعتقدت أنني سأموت هناك. لم أكن أعلم حينها أنني سأولد من جديد هناك”.
وتابع في رسالته “في فرنسا، كنت أضيع. أصبحت رمادياً مثل سماء باريس. وشيئاً فشيئاً، أصبحت كائناً حزيناً ومملّاً…في وقت النوم، لم أستطع التحدث عمّا حدث خلال النهار لأنه لم يحدث أيّ شيء مهم، أو بهيج… ثم اكتشفت لبنان، وتغيّرت حياتي إلى الأبد! لبنان أنت بعثتني”. أصبح ليومياته معنى، وامتلأت بكل شيء حيّ، وفق وصفه. “لقد جعلتني أحب الحياة مرة أخرى، وعلمتني مرة خرى أن أحب الإنسانية، وصالحتني معها”. عندما وصل، أُصيب بصدمة وجودية، وشعر بصوت سماوي يقول له إن هذا المكان هو مكانك، وهو أرضك وشعبك.
لم يكن سوتون قريباً من الله، “في لبنان التقيت بالله، لكن في فرنسا، سمعت عنه…ولد الله في لبنان…في الليل، في سهل البقاع، تتأمل النجوم، وتتعجب من فنّ نسجه…في الغرب، لا أشعر بالله. الله شرقيّ”. يقصد سوتون بكلامه أنّ في لبنان شعوراً بكلّ شيء حيّ، وبالتالي وجود الله طبيعي. ولدى اللبنانيين أسلوب في تذوق الحياة، وروح لبنان استثنائية، وفق وصفه. هو ليس في لبنان كما في خارجه، إذ يشعر بالأمان تماماً فيه، بسبب شعور الخير والقِيم الجميلة التي تسود مجتمعه، على الرغم من اختلافاته وظروف الحرب فيه.
لبنان غيّر نظرته تجاه العرب، على عكس ما يحاول البعض التصرّف إزائه. وجد، عبر لبنان، بأنّ الشرق مثقف، مضياف، عاطفي، ومتسامح، واكتشف الوجه الآخر للكوكب. وبرأيه، لا بدّ من وجهي الكوكب، الشرق والغرب، أن يتّصلا وألّا يتواجها، لا سيما أنّ الغرب اليوم بحاجة إلى قيم الشرق.
سار في بيروت، واكتشف تفاصيلها، وكأنّه يبحر في كوكب آخر. “ففي أرض الأرز شيء معقد لكنه مدهش؛ فيه كل المعتقدات الدينية والطبقات الاجتماعية مجتمعة”. اختلط بهم جميعاً، ووجد أنّ لبنان هو مثال عالمي للأخوة بين المجتمعات. “هناك في لبنان إحساس بالحياة لم أختبره من قبل في أيّ مكان آخر… كل لحظة تتمّ تجربتها كما لو كانت الأخيرة. نحن نعلم أننا يمكن أن نموت، لذلك يجب أن نعيش… يمكن لأيّ شخص غريب تقابله في الشارع أن يصبح صديقاً مدى الحياة، والكلّ جاهز لمساعدتك؛ وهذا الأمر لا نراه في باريس. في فرنسا هناك شكّ تجاه الآخرين، بينما في لبنان هناك فضول… مكتوب في شعارنا، الأخوة، إلّا أنّه شعور لم أجده إلّا في لبنان، وهو أفضل من الحب”.
في عودته من زيارته الأولى إلى باريس، أيقن بأنّه يُريد العودة والعيش في لبنان. وبالرغم من ظروفه الصعبة، كان لبنان بالنسبة إلى المسرحي الفرنسي أجمل بكثير من دول في أوضاع جيدة.
في سنة واحدة، زار سوتون لبنان خمس مرات لتقديم عروض مسرحية وورش عمل. في آخر زيارة له، وبالرغم من الحرب الدائرة الآن، عاد إلى فرنسا مرغماً عشية الـ 27 من أيلول، بسبب قلق والدته عليه ووجوب حضوره إلى جانب أولاده. ذهب وهو حزين، وقال في رسالته :”اليوم، وأنا أكتب هذا بكل وضوح، أشعر بأنني لبناني أكثر من كوني فرنسياً. أريد أن أعمل من أجل لبنان. أنا مدين له. في لبنان أريد أن أعيش. لقد شعرت بالحزن عندما غادرت لبنان وهو في حالة حرب أكثر من عودتي إلى فرنسا المسالمة. على متن الطائرة، بكيت”. إنه يشعر بالطمأنينة هنا حتى لو أمطرت السماء قذائف، فما يربطه بلبنان بتجاوز الحب. و”الآن، أنا بعيد عن لبنان، أذبل مثل نبات محروم من الماء…أدمنتك يا لبنان الرائع. كل شيء استثنائي في لبنان. مناظره الطبيعية، سكانه، تاريخه. الحمض النووي للبنان استثنائي”.
بالنسبة إليه، لبنان نموذج يعلّم الكوكب كيف يجب أن يعيش. فمع اختلافات مجتمعه يعيش بسلام مع ما يجمعه، وهذه هي سعادة العيش. فهو ملتقى التناقضات، وهو أن تجوب العالم بخطوات. يسرد أنّه خاض فيه مغامرات رائعة وشيّقة لم يكن يتخيّلها، في عدة مناطق وأحياء شعبية وراقية. كان اكتشافه للأماكن الشعبية فرصة لم يعشها في فرنسا، وقد لا يعيش مثلها. ويضيف:”وددت من جميع هذه الاكتشافات والمغامرات أن ألتقي بالله”، في إشارة إلى كل المبادئ والقيم الإنسانية الجميلة.
لم يعش سوتون الحرب يوماً. “وأنا أكتب هذه السطور، القنابل تمطر على رأسي. تخريب المنازل. ذبح الناس. أنا أحزن عليهم. كل لبناني يُقتل يبكيني. كفرنسي، لا يسعني إلا أن أشعر بالعار…لنرَ إلى أيّ مدى تركتكم فرنسا لمصيركم، بالرغم من تصريحاتها الكبيرة. لكن لبنان ليس بحاجة إلى الكلمات. هذه هي الإجراءات. أعمال قوية وشجاعة واستبدادية. لبنان يحتاج إلى فرنسا سيرانو دي برجراك…”. فهذا لبنان ولا يجب المساس به!
مع بداية الحرب، لم يفكّر سوتون بنفسه، إنّما بالشعب اللبناني. تمنّى “لو تتوقف هذه الحرب وألّا يتحمل المزيد من المعاناة التي يشهدها منذ عقود، فهو شعب محاصر بين السندان والمطرقة ويستحق السلام. هو شعب لا يؤذي أحداً، وقد يكون عوقب لكونه جميلاً جداً وطيباً جداً”. إنه يرى أنّ “القدر يحكم هناك مثل الله. فلبنان يعرف كل اللعنات، على فترات منتظمة ومتكرّرة”.
ومن شدّة عشقه للبنان، يؤكد سوتون أنّه إذا ما وقع في حبّ امرأة لبنانية يوماً ما، “فعليها أن تكون بمستوى لبنان، الذي أراه؛ والأمر لن يكون سهلاً بالنسبة إليها”. وفيما يؤمن بالإشارات الكونية، فاسمه يعني بالعربية “شجرة الزيتون”، وليس عبثاً أن أتى إلى بلاد شجر الأرز. لذا، ينوي أن يضع وشماً يضمّ الشجرتين.
يعتزم سوتون المجيء إلى لبنان الشهر المقبل وقد حجز تذكرة سفره. هدف هذه الزيارة تضامنه مع الشعب اللبناني، عبر إقامة ورش عمل مسرحية، والتجوال مع مهرّجين في المستشفيات لإدخال الفرح إلى قلوب الأطفال، وقراءة القصص بطريقة مضحكة لهم. وفي فرنسا، ستكون عائدات العروض لجمعية خيرية لبنانية.
طموحه اليوم أن ينخرط في الحياة الثقافية اللبنانية. وهو في صدد التحضير لمسرحية مهداة إلى لبنان، و”أودّ أن تكون أجمل مسرحية قمت بها، لأن لبنان كان أجمل مغامرة عشتها في كل حياتي”، يورد سوتون. ودائماً في عروضه المسرحية يتعمد الحديث عن لبنان.
وتوجّه في آخر كلماته بالآتي: “إذا جعلوك تعاني كثيراً يا لبنان، فذلك لأنك تملك كل ما يجعلك سعيداً، وهم يحسدونك، فيطمعون بك، يؤذونك، يؤذونك، يؤذونك…أيها اللبناني، صديقي، أخي، انتبه لنفسك. لأنه مرة أخرى، لا يمكنك الاعتماد إلا على نفسك. ولكنك سوف تقوم من جديد…أحبك يا لبنان. وكل من وطأت قدماه ترابك يحبك ويذكرك. سأعود قريباً جداً، بين قنبلتين، لأضمك بقوة أكبر من ذي قبل…ومرة أخرى، سنضحك، سنبكي، سنحتفل، سنمرح، سنرقص، سنسكر، سنعيش لأن هذا هو لبنان: الاحتفال الكبير بالمشاعر العظيمة”.
وختم رسالته بـ”أحبك”.