أسئلة إيرانيّة وجوديّة بعد الضّربة الإسرائيليّة وانتخاب ترامب
خمسة أسئلة حاسمة، فرضتها الضربة الإسرائيلية الأخيرة على إيران، لم تكن مطروحة بهذه الحدّة من قبل. وهي ليست أسئلة تتعلّق بالتكتيكات والمناورات بقدر تعلّقها بجوهر الدور الإقليمي لإيران، وسيتقرّر في ضوء الإجابات عليها الكثير من النتائج للسنوات المقبلة.
زاد من هذه الأسئلة وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض، والتوقّعات بأن تتكوّن سياسته تجاه إيران، من مزيج استراتيجي من العقوبات الصارمة والدبلوماسية المباشرة والحازمة. بهدف كبح طموحات إيران النووية وتقزيم أدوارها الإقليمية وتأكيد الهيمنة الأميركية في المنطقة.
1- هل تستطيع إيران الحفاظ على استراتيجيّتها الإقليميّة وسط الضغوط المتزايدة؟
بعد 7 أكتوبر 2023، تراخت القبضة الاستراتيجية لإيران إثر الضربات الإسرائيلية التي أضعفت حماس والحزب. فمع استنزاف قدرات هذه الميليشيات ومواردها وتراجع الدعم الشعبي، فقدت إيران أدوات حيوية لممارسة النفوذ وتجنّب الصدام المباشر مع إسرائيل وأميركا. كما تشير الضربة الإسرائيلية الأخيرة وإبداء الاستعداد لتوجيه ضربات أخرى، إلى ولادة بيئة إقليمية لن تتسامح بعد الآن مع سعي إيران وراء النفوذ عبر الوكلاء من دون عواقب مباشرة على طهران.
الإجابة على هذا السؤال، وما إذا كان ثمن استراتيجية إيران الإقليمية، يظلّ مستداماً على المدى الطويل، تتجاوز مسألة الموارد فحسب. بل هي مسألة أولويّات. في منطقة تتشكّل على نحو متزايد بفعل ديناميات التكامل الاقتصادي، وتشابك البنى التحتية، والاتصال التكنولوجي، يصير تركيز إيران على بسط النفوذ بالقوّة العسكرية عبئاً، وتهديداً يتجاوز تهديد مصالح خصومها المباشرين. تخاطر إيران، إذا ما تمسّكت بنهجها الحالي، بتسريع وتيرة التحالفات بين منافسيها الإقليميين والدوليين وباستنزاف المزيد من مواردها الشحيحة ومفاقمة عزلتها، تمهيداً للاصطدام بنفسها وشعبها.
2- ما هي الغاية النهائية لإيران من برنامجها النووي؟
جدّدت الضربة الإسرائيلية التأكيد على مركزية البرنامج النووي الإيراني في الحسابات الجيوسياسية الأوسع في الشرق الأوسط. حتى من دون غزة، كان لا بدّ لإسرائيل أن تقتلع الحزب إذا ما كان في حساباتها أنّها ستضطرّ في لحظة ما إلى ضرب البرنامج النووي الإيراني، الذي صار منع إتمامه عنواناً علنيّاً في السياستين الإسرائيلية والأميركية.
ولطالما وظّفت طهران البرنامج النووي كأداة ضغط بيدها، إمّا للحدّ من التهديدات وتعزيز مكانتها، وإمّا لاستدراج عروض التفاوض مع الغرب من موقع لا يهدّد مناعتها الأيديولوجية أمام شعبها. بيد أنّ تصاعد التوتّرات قرَّب طهران من ضرورة تحقيق قدرات نووية عسكرية، وهو ما وضعها في حالة تصعيد مباشرة مع كلّ من إسرائيل والولايات المتحدة.
والآن بات على إيران أن تقرّر ما إذا كان السعي النووي هو أداة تضليل استراتيجي ووسيلة لتحقيق أهداف سياسية أخرى… أم بات بحدّ ذاته غاية، مع ما يلازم ذلك من احتمال توريطها في صراع مدمّر.
3- هل تحالفات إيران متينة بما يكفي للصّمود؟
الى جانب شبكة ميليشياتها الحليفة الممتدّة عبر الشرق الأوسط، بنت طهران شبكة تحالفات مع عدد من الدول مثل روسيا والصين وفنزويلا وبعض الدول العربية. بيد أنّ هذه الدول وعلى الرغم من اشتراكها مع إيران في معارضة متفاوتة للنفوذ الغربي، تعاني من تعارض مزمن بين أولويّاتها ومصالح إيران، وهو ما يؤدّي إلى تحالفات سطحية تمنع بناء شراكة استراتيجية طويلة الأمد. فروسيا والصين مثلاً معنيّتان بموازنة علاقتهما بين إيران من جهة ومع إسرائيل ودول الخليج من جهة أخرى، بشكل يضع قيوداً قاسية على مدى الدعم الذي يمكن أن تقدّماه لطهران.
4- ما مقدار الاستقرار الداخليّ الذي يمكن أن تضحّي به طهران؟
في خضمّ هذه الديناميكيات الإقليمية، تواجه إيران تحدّياً ملحّاً على صعيد تحقيق التوازن بين طموحاتها الأيديولوجيّة الخارجية والتوقّعات الشعبية الداخلية نتيجة الضغوط الاقتصادية، والاحتجاجات المتقطّعة، والسخط السياسي، والغموض المحيط بمستقبل النظام بعد خامنئي.
على عكس الشباب الثوري في عام 1979، تغيّرت القاعدة الاجتماعية في إيران بشكل كبير، مع حالة جيليّة أكثر بعداً عن التوجّهات الأيديولوجية للنظام. يتّضح ذلك في ضوء انخفاض نسب المشاركة في الانتخابات العديدة السابقة. وهو ما يعكس حالة من خيبة الأمل العميقة لدى الإيرانيين الذين يحمّلون السياسات الأيديولوجيّة مسؤولية الأثر السلبي على رفاههم. يُعَقّد هذا التحوّل قدرة طهران على الحفاظ على الاستقرار الداخلي بينما تتابع طموحاتها الإقليمية، ويجعل التوازن بين هذين الاتّجاهين مهمّة أكثر تعقيداً من أيّ وقت مضى.
5- هل يمكن أن تحقّق إيران نفوذاً دون مواجهة دائمة؟
دأبت إيران على تصوير دورها الإقليمي من خلال عدسة المقاومة، ساعيةً إلى النفوذ والأمان عبر العسكرة الدائمة. إلّا أنّ نجاح إسرائيل منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023) في إظهار تفوّقها العسكري بات يمتحن فعّالية أدواتها التقليدية لبسط النفوذ واتّكالها الحصري على القوّة الصلبة.
بموجب الضربات الإسرائيلية في عمق إيران وتحطيم وكلاء طهران مثل الحزب وحماس، وُضعت طهران أمام شكوك عميقة في جدوى استراتيجيّتها العسكرية. بيد أنّ حجم الضغط عليها وعلى صورتها ومعنويّاتها، قد لا يتيح لها إعادة النظر في فلسفة قوّتها وأدوات النفوذ التي اعتمدت عليها لسنوات، من دون أن تتكبّد جرّاء ذلك أكلافاً باهظة قد تكون مساوية لأكلاف الاستمرار في المواجهة.
بيد أنّ الأفق ليس مقفلاً على النحو الذي يبدو عليه. لقد ألمح ترامب مراراً خلال حملته الانتخابية إلى استعداده للتفاوض على صفقة كبرى مع إيران كجزء من رؤيته لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. لن يتردّد الرئيس الأميركي المنتخب في سعيه إلى توظيف تراجع نفوذ إيران الإقليمي بعد عام 2023، بغية دفعها نحو شروط أكثر صرامة على أنشطتها النووية وسلوكها الإقليمي. ولئن كانت إيران، مهتمّة بالتسوية بهدف حماية مكتسباتها الراهنة وإبعاد شبح العقوبات الترامبيّة بعد خفض الكثير منها إبّان إدارة الرئيس جو بايدن، فستبحث عن مزيد من المكتسبات التي تعينها على بلع التسوية المرّة مع واشنطن.
من المحتمل أن تراهن إيران على النزعة الانعزالية لإدارة ترامب وتوقّع خفض الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، على ما توحي به خطاباته السابقة بشأن “تقليص التدخّلات الخارجية” و”حماية المصالح الأميركية أوّلاً”.
ترجمة هذه المواقف إلى خطوات عمليّة تقلّص الوجود الأميركي على مقربة من إيران، وهو مطلب استراتيجي لطالما سعت طهران إلى تحقيقه، سيسعفها في تقديم ذلك كـ”انتصار” أمام الإيرانيين وجمهور المحور، والتغطية على أيّ تسويات قد تضطرّ إلى تقديمها في ملفّها النووي أو في أنشطتها الإقليمية.
الأسئلة التي تواجه طهران ليست استراتيجية وحسب، بل تحدّيات وجوديّة.
هل أمام إيران فرصة لرؤية جديدة لدورها وموقعها؟ وهل تستطيع أن تلتقطها أم تستمرّ في ما تعرفه وتتقنه وليكن ما يكون؟