خاص – الحرب توجّه الضربة القاضية للاقتصاد اللبناني
بالكاد بدأت بوادر التعافي من الأزمة الاقتصادية تطلّ برأسها في النصف الثاني من العام 2023، حتّى تلقّى الاقتصاد اللبناني المنهك ضربة تكاد تكون قاضية، بسبب ما خلّفته الحرب من خسائر تتفاقم بسرعة يوماً بعد يوماً. إذ سجّلت المؤشرات الاقتصادية تدهوراّ في كلّ القطاعات، وتوقّعات بحصول انكماش كبير، عدا عن الأضرار الضخمة في المباني والبنى التحتية والقطاعات الأنتاجية، وتداعيات النزوح لما يقارب المليون ونصف المليون لبناني.
ليس هناك حتّى الآن أيّ أرقام دقيقة عن حجم الخسائر. ففي حين يشير وزير الاقتصاد أمين سلام إلى أرقام تقارب الـ 20 مليار دولار، يعتبر اقتصاديّون أنّ هذا الرقم مبالغ فيه، ويتحدّثون عن خسارة أوّليّة تقدّر حتّى اليوم بـ 10 مليارات دولار، أي ما يوازي نصف الناتج المحلّي.
توقعات بالانكماش
وفيما كانت توقّعات النموّ للعام 2023 تبلغ 2%، بعدما بدأت بوادر التعافي إثر الاستقرار في سعر صرف الدولار، وإعادة تكيّف الأجور إلى حدّ مقبول مع السوق، تراجعت هذه التوقّعات إلى 1%، بسبب التطوّرات العسكرية التي طرأت في جنوب لبنان منذ الثامن من تشرين الأوّل من العام الماضي. ولكن هذه التوقّعات تراجعت مرّة أخرى في شكل دراماتيكي، وبلغت حدود الانكماش بالنسبة إلى العام 2024. فقد ازدادت الخسائر، خصوصاً منذ أيلول مع تصاعد حدّة الحرب على الجبهة اللبنانية. وضيّع الاقتصاد فرصة الاستفادة من موسم الصيف، مع إلغاء الكثير من الحجوزات ابتداء من نهاية شهر تمّوز، ومغادرة السيّاح والمغتربين. وعليه، فإنّ المنتظر هو تسجيل انكماش بنسبة تتراوح بين 6 و7%. وإذا ما قارنّا توقّعات النموّ التي كانت على مستوى يقارب 2% مع الانكماش الذي سيصل حتى 7%، يكون حجم التراجع قريباً من 10% تقريباً. وربّما ترتفع هذه النسبة حتّى نهاية العام، إذا استمرّت الحرب على وتيرتها العنيفة.
ويتوقّع التقرير الأخير الصادر عن بنك عودة معدّل انكماش قد يصل إلى 20% في العام المقبل، إذا طالت الحرب سنة كاملة. أمّا وكالة ستاندرد اند بورز فأشارت إلى أنّ تصاعد الصراع أضعف بشدة احتمالات تعافي الاقتصاد اللبناني الهشّ، وسيؤدي إلى مزيد من التأخير في الاصلاحات الاقتصادية والمالية وفرص انتعاش حسابات المالية العامة والخارجية على المدى الطويل.
ضرب القطاعات الحيوية
وستكون الخسائر كبيرة، خصوصاً الخسائر غير المباشرة، التي ستظهر تباعاً، وتثقل عاتق الاقتصاد. ومنها على سبيل المثال، ارتفاع معدّل البطالة بفعل إقفال شركات ومؤسّسات وتضرّرها، إضافة إلى نزوح عدد هائل من اللبنانيين عن مناطقهم، ما
اضطرّهم إلى ترك أعمالهم ووظائفهم. ويشار إلى أنّ نسبة البطالة كانت بلغت 11% في العامين 2022 و2023، حسب تقارير البنك الدولي.
وبالنسبة إلى حجم الدمار الذي سبّبته الحرب، ليس هناك أرقام دقيقة حول عدد المباني السكنية المتضرّرة كلّياً أو جزئيّا، والتي تحصى بعشرات الآلاف، عدا عن تضرر مؤسّسات تجارية وصناعية. ويُظهر بعض التوقّعات غير النهائية أرقاماً مخيفة من الخسائر، تزداد يوميّاً مع استمرار الحرب وارتفاع فاتورتها في شكل متسارع.
وسجّل القطاع السياحي، الذي يُعتبر من القطاعات التي تشكل قرابة 20% من الناتج المحلي، خسائر تتراوح ما بين 3 و4 مليارات، أي ما يوازي50% من مدخول السياحة الذي سُجّل في العام الماضي. واذا استمرت الحرب حتّى الشتاء، فإنّ موسم التزلج سيذهب مع الريح.
أمّا القطاع الصناعي الذي كان من أوّل القطاعات التي بدأت بالتعافي، فقد تراجع بدوره، وتوقّف نحو 30% من المصانع عن العمل، بسبب تضرّرها أو وجودها في المناطق الساخنة، استناداً إلى ما أعلنه رئيس الهيئات الاقتصادية محمّد شقير، الذي يقدّر انخفاض النشاط الصناعي نسبة 50% بسبب انخفاض الطلب في السوق الداخلية وفي الطلبيّات الجديدة إلى الخارج.
ويبقى القطاع الزراعي من القطاعات الأكثر تضرّراً، نظراً إلى تمركز النشاط بشكل أساسي في البقاع والجنوب اللبناني، الذي تعرض لقصف شديد بالفوسفور، حيث احترق قسم كبير من الأراضي الزراعية. وحُرم المزارعون من الاستفادة من مواسمهم، وخصوصاً موسم الزيتون، حيث منع الوضع العسكري الأهالي من القطاف. وقد خسر هذا القطاع ما يقارب 30% من قدرته الانتاجية.
وكلّما طالت الحرب، وتطوّرت أهدافها، يمكن للأزمة أن تطال قطاعات حيوية جديدة، مثل الأمن الغذائي والأمن الصحّي، خصوصا إذا ما عمدت إسرائيل في مرحلة لاحقة إلى فرض حصار على لبنان، والذي بدأت بوادره مع ضرب طريق المصنع الحدودية مع سوريا، ثمّ طريق جوسيه – القاع. والمقلق هو أن يتمّ تعطيل عمل المطار أو المرفأ، ما يجعل الحصار شبه مطبق على البلاد. وإذا ما اتسع نطاق الصراع، وتعطّلت طرق التجارة البحرية، فهذا سينعكس على حركة الاستيراد والتصدير، من دون أن ننسى الارتفاع المحتمل في أسعار النفط، وما يستتبعه من ارتفاع أسعار السلع بكلّ أنواعها.
لا يمكن في الواقع حصر الأضرار التي ستنجم عن الحرب. فحتّى الإحصاءات التي ستجرى، والأرقام التي ستُعلن، لن تكون قادرة على تقدير مدى الضرر واتّساعه وشموليّته على مختلف الصعد، والآثار التي ستتركها هذه الحرب على المدى البعيد. وستكون المساعدات المتوقّعة مرتبطة إلى حدّ كبير بالواقع السياسي الذي قد يُستجّد. وأوّل البوادر هو مبلغ المليار دولار الذي جمعه مؤتمر باريس، والذي تبقى ترجمته رهناً بوقف النار والحلّ السياسي.