إسرائيل في توغلها البري: تغيير الاستراتيجية وبدء المرحلة الثانية
يتواصل التصعيد العسكريّ عند الحدود الجنوبيّة اللّبنانيّة، وشهدت الأيام القليلة الفائتة اشتباكاتٍ عنيفة بين حزب الله والجيش الإسرائيليّ الذي بدأ المرحلة الثانيّة من عدوانه البريّ على لبنان، عُقب إنهاء المرحلة الأولى الّتي وُصفت بـ”استطلاعٍ بالنار”، والّتي كان مؤداها استهداف البنية التحتيّة لحزب الله في “قرى الحافّة”. ووفقًا للمؤشرات الميدانيّة المتلاحقة والتحليلات العسكريّة، فإن المرحلة الثانيّة هذه تتمحور حول محاور عمليات رئيسيّة في القطاعات الغربيّ، الأوسط والشرقيّ، مع تغييرات واضحة في الاستراتيجيّة القتاليّة الّتي تتبعها إسرائيل مقارنةً بحروبٍ سابقة.
الميدان والأهداف الاستراتيجيّة
بعد مرور نحو شهر ونصف على بداية هذه التّوغّلات، والّتي جاءت مدعومةً بالطيران الحربيّ وعمليات التدمير والتفجير، ما حقيقة الوضع الميدانيّ اليوم عند محاور التوغّل البريّ؟ وهل تنجح إسرائيل في تحقيق ضغطٍ سياسيّ وعسكريّ متزامن على إيقاع المفاوضات الّتي تقودها الولايات المتحدّة الأميركيّة لإنجاز تسوية وقف إطلاق للنار؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، تواصلت “المدن” مع كل من العميد الركن المتقاعد خالد حمادة والعميد الركن المتقاعد حسن الجوني، لتحليلٍ معمّق للوضع الميدانيّ ولفهم أبعاد التطورات الأخيرة وتداعياتها المحتملة.
بدايةً، يوضح الجوني لـ”المدن”، أن إسرائيل ركزت جهودها في المرحلة الثانية على أربع مناطق عمليات رئيسية: الغرب (اتجاه طيرحرفا، شمع والبياضة)، الوسط (اتجاه عيناتا – بنت جبيل)، الشرق (مركبة – طلوسة)، والخيام. من جانبه، ذكر حمادة أن المرحلة الأولى كانت تهدف إلى تدمير البنية التحتية لحزب الله في القرى الحدوديّة حيث توغّلت القوّات الإسرائيليّة لعمق 3-4 كيلومترات، ودمرت أنفاقًا، ومخازن ذخيرة، ومواقع قيادية”. ويُضيف حمادة: “يمكن تلخيص الوضع الميدانيّ اليوم عند الحدود الجنوبية على الشكل التالي: عمليات المرحلة الأولى لم تكن سوى عمليات أسميناها استطلاع بالنار، أما المرحلة الثانيّة فهي استطلاع بالنار بقوّة أو استطلاع بالنار بلس plus”.
السيطرة على البياضة وشمع
يُكمل الجوني مشيرًا إلى أن الجهود الحالية تتركز على الخيام وشمع، حيث لا يزال الجيش الإسرائيليّ يواجه مقاومة عنيفة من حزب الله، وتترافق عملياته ومناوراته مع غاراتٍ جويّة مكثّفة وقصفٍ مدفعيّ، ولا يزال يشتبك في محيط بلدة شمع مع حزب الله ولم يستطع الوصول إلى البياضة. أما هدف الوصول إلى البياضة، في هذه المنطقة، فهو للسّيطرة على هذا المرتفع نظرًا لأهميته، وهو الكاشف على معظم طريق السّاحل ومحاصرة جيب في القطاع الغربي. هذا الجيب يشمل العديد من الغابات والأحراش الّتي يريد تنظيفها.
وفي هذا الإطار، يشير حمادة: “طبعًا تم تركيز مدفعية الميدان في منطقة شمع، وهذا يشير إلى احتمال أن تكون هناك عمليات عسكريّة بريّة قد تحصل في المستقبل. هناك ربما اتجاه لاحتلال بلدة البياضة المشرفة على السّاحل اللّبنانيّ من الناقورة حتى صور، وبالتالي يمكن إذا ما تحقق ذلك القول إنه هناك جيب كبير على المحور الغربي قد تمت السيطرة عليه.”
عيناتا وبنت جبيل
حول المحور الأوسط، يوضح الجوني: “في القطاع الأوسط، الهدف طبعًا الوصول إلى بنت جبيل وإسقاط هذه المدينة نظرًا لأهميتها ورمزيتها، ولكن حتى الآن لا يركز العدو على الجهود وكأنه يؤجل معركة بنت جبيل الأساسيّة إلى ما بعد الانتهاء من معركة الخيام. لأن بنت جبيل تحتاج إلى تخصيص جهود لذلك، هناك مناوشات في محيط عيناتا بنت جبيل ولكن ليس هناك جهد مركز ومكثف.”
أما حمادة فيعتبر أن “العدو انتقل إلى المرحلة الثانية. في هذه المرحلة يعني تم تطوير الهجوم لجهة الشرق والشمال، بمعنى أنه انتقل الهجوم إلى منطقة مشرفة على الطيبة، أي انتقل إلى مشارف الطيبة، وإلى مشارف وادي الحجير. كما وأن هناك تقدم باتجاه بنت جبيل، وقد طغى على هذا الهجوم نوع من التطوّر الملحوظ لا سيما باتجاه قرية الضهيرة ويارين باتجاه طيرحرفا، وشمع”.
الخيام وتلّة الحمامص
وحول المحور الشرقيّ، يشير حمادة إلى “المدن” بالقول:”عاد العدو ليهاجم من جديد قرية الخيام الّتي سبق وانسحب منها بعد أن سيطر على أجزاءٍ كبيرة منها، وعلى تلّة الحمامص. عاد إليها. كذلك، وجّه مجموعة إنذارات إلى قرى واقعة في القطاع الشرقيّ ككفرشوبا، كفر حمام، دير ميماس، يحمر، رب تلاتين، وصولا إلى كفر تبنيت.”
من جهته، يؤكد الجوني أن “محور مركبة – طلوسة حصل عليه تقدّم واشتباكات عنيفة. وكان هناك مقاومة عنيفة واستهداف لقواته من قبل حزب الله بشكلٍ مباشر صاروخيًّا ومدفعيًّا، ولكن يبدو أنه أجّل العمل عليه الآن وانصرف إلى الخيام. تركيزه على الخيام مضى عليه تقريبًا أكثر من 24 ساعة ويحاول التقدم على المحور الشرقي ومحور مزرعة سردة باتجاه الخيام. حتى الآن اشتباكات عنيفة ومقاومة عنيفة. ويبدو أن حزب الله قد حضر معركة دفاعيّة جيّدة للخيام”.
الاستراتيجية الإسرائيليّة الجديدة
وصف حمادة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة الحالية، قائلاً: “لقد غيرت إسرائيل التكتيك المرتقب، لم تلجأ إلى زجّ وحدات مدرّعة، معتمدة على قوّة الصدم وقوة النار لدخول الأراضي اللّبنانيّة. كل ما قامت به هو الدخول، التدمير، والانسحاب، ومن ثم إعادة هذه الحركة مرارًا”. وأضاف الجوني: “المناطق الّتي تمّ التوغّل فيها بريًّا فيها لا تتعدى حتى الآن الخمسة كيلومترات. وبطبيعة الحال فإن دخول الجيش الإسرائيليّ إلى هذه المناطق، يُشير إلى تمكنه من تدمير كل ما يتصل بجاهزية حزب الله الدفاعيّة، أكان في الأنفاق والدهاليز. ولكن هذه المنطقة الحدوديّة على التخوم الأماميّة فعليًّا لا تتضمن أو تشمل تحصينات دفاعيّة أساسيّة”.
من جهته، يرى الجوني أن: “العدو الإسرائيليّ كان قد حاول دخول الخيام في المرحلة الأولى وفشل. استطاع أن يصل إلى التخوم الشرقية للبلدة مع تلّة الحمامص ولكن لم يستطع البقاء. تعرض إلى ضغطٍ كبير من الأسلحة غير المباشرة من قبل حزب الله فقرر التراجع، والآن يحاول إعادة الهجوم وإعادة المحاولة.”
فيما يلفت حمادة إلى التكتيكات الجديدة المتبعة من قبل الجيش الإسرائيليّ: “غيرت إسرائيل استراتيجيتها الميدانيّة الّتي اعتمدتها في 2006 وما قبل ذلك. كانت الاستراتيجية العسكريّة تعتمد على الحرب السريعة الخاطفة، لكن الآن لجأت إلى التّوغّل المحدود، عمليات تفجير وتفخيخ، تدمير البنية التحتية، الاشتباك مع من يصادفهم من مجموعات حزب الله، ومحاولة تحييدهم أو قتلهم، ومن ثم الانسحاب دون تعريض القوى لأي مخاطر.”
التقييم الأوليّ
يختتم الجوني حديثه قائلاً: “حتى الآن، نحن في اليوم الرابع لهذه المرحلة الثانية الّتي لم تحقق تقدمًا تكتيكيًّا يُعتد به. أصبح من الممكن القول إن العملية فشلت مثل المرحلة الأولى.” وفي المقابل، يؤكد حمادة أن: “الحرب مستمرة، ونتنياهو ومن خلفه الولايات المتحدة لن يتنازلوا عن الأهداف المعلنة بتدمير قدرات حزب الله. المساعدات الدبلوماسيّة لغاية الآن لا تشير إلى تطور للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. السّاحة اللّبنانيّة أصبحت متصلة بالسّاحة في طهران وبالاشتباك الصاروخيّ بين إسرائيل وبين إيران.”
عمليًّا، يتضح أن العمليات العسكريّة في جنوب لبنان والّتي وصفت وكأنها “تفاوضٌ تحت النار” تتسم بتعقيدٍ ميداني واستراتيجيّ كبير، حيث تسعى إسرائيل لتطبيق نهج ٍجديد يعتمد على الإغارة والتدمير دون التورط في مواجهة مباشرة. وفي المقابل، يستمر حزب الله في صموده وتحصيناته الدفاعيّة. أما على الصعيد السّياسيّ، فتترافق هذه التطورات مع مساعٍ دبلوماسيّة تتأرجح بين العرقلة والتفاؤل الحذر.