قبل كلّ غارة وبعد كلّ تحذير… إنذارات “أفيخاي أدرعي” أوامر

قبل كلّ غارة وبعد كلّ تحذير… إنذارات “أفيخاي أدرعي” أوامر

الكاتب: نوال نصر | المصدر: نداء الوطن
25 تشرين الثاني 2024

هذا أفيخاي أدرعي أو “أفيخو” كما يسميه بعض اللبنانيين. هو المتحدث بلسان جيش دفاع العدو الإسرائيلي للإعلام العربي. اسمه اليوم- للأسف- على كلِ شفة ولسان: قال أدرعي. حذّر أدرعي. طلب أدرعي، نهى أدرعي… طلباته أوامر. وأوامره تُطاع. هو ظاهرة هذه الحرب الجديدة على لبناننا باسم “طوفان الأقصى”. طوفانٌ فاض في بلادِنا- ذات السيادة في الشعر والنثر- بلونٍ أحمر وخرابٍ وهلاك. فماذا عن أفيخاي هذا الذي يتبع تعليماته 99,99 في المئة من الشعب اللبناني؟ يقول: أخرجوا. يخرجون. يقول: أركضوا. يركضون. يقول: نفذوا فينفذون. هو الاسم الذي يبرز قبل كلّ غارة وبعد كلّ تحذير. أفيخاي أدرعي، العدو أفيخاي، تحت المجهر.

له في كلِّ عرس قرص. يحشر أنفه في ما له وفي ما ليس له. في عيد استقلال لبنان الواحد والثمانين أقحم نفسه في المناسبة، موجهاً- بين إنذارَين بالموت- رسالة إلى اللبنانيين بالاستقلال: “كل عام وأنتم أحرار في ذكرى استقلال حقيقي”. واثقٌ من نفسِهِ يبدو لكن الصواب أن “أفيخو” مغرور حتى النخاع. والغرور- من أيّ ميّل أتى- يولّد الطغيان.

البارحة، قبل يومين أو ثلاثة، أطلّ أدرعي من “كفركلا” ليُخبرنا تاريخ البلدة “هنا كفركلا، القرية اللبنانية الآتية من تاريخ عريق باسم سرياني يعني قرية العروس…”. تعليقات كثيرة على منشوره وتسمية أعطيت له: “سماحة السيّد أفيخاي أدرعي”. لا بُدّ أن يكون فرح بما قرأه وما لم يُفرحه من التعليقات ضحك عليها. هذا هو. هكذا هو. غريبٌ حقا أفيخاي الذي لا يتأثر ولا يبالي إلا بما يريد. فمن أين أتى ليشغل الناس؟

هو من أصول عراقية. ولد في حيفا. وأصبح المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي منذ العام 2005. في حرب تموز 2006 كان أفيخاي يانعاً في دوره وها قد “تخضرم” فيه في حرب أيلول 2024. يتبعه اليوم على منصة إكس 722 ألف شخص بينهم كثير كثير من اللبنانيين. هو يتنقل من قرية لبنانية اإلى قرية: من كفركلا إلى العديسة متباهياً، مبتسماً، ساخراً، وشابكاً كفيه ببعضهما، “رحالاً” بين الأحداث المتتالية بثقة جعلت أكثر من اختصاصي يملكون القدرة على تفسير حركات الجسد يرفضون الإدلاء بشروحاتهم كونها تخدم العدو أفيخاي أدرعي. العدو الإسرائيلي يعرف تماماً كيف “يتكتك” على صفحات التواصل الإعلامي. فكلّ حركة وحرف منه محددَين سلفاً في أقبية “شعبة الإعلام العربي” في إسرائيل. وهو منفذٌ بارع.

رسم الخريطة الجديدة

هو يتكتك ونحن نتفاعل. اللبنانيون يطرحون عليه أسئلة وهو يجيب. يضع منشوره وهم يعلّقون. وأحياناً، لا لا غالباً، يتشاجرون: اثنان علّقا على منشور وقوفه على تلال العديسة. أحدهما قال: “هذا فوتوشوب فيديو مركّب”. أجابه الآخر: “تركيب شو يا حبيبي انتظر قليلاً بعد وسيقرع بابك شخصياً ويقول لك: أخرج سنقصف هذا البيت”. ويتتابع النقاش حامياً (…) في حين يرسم “أفيخو” ومن ورائه خريطة جديدة لقرى جديدة ملونة بالأحمر.

لم ينس العدو أفيخاي معايدة سفيرتنا إلى النجوم فيروز. ألم نقل منذ البداية إنه يحشر أنفه في كلِ شيء. وهو أصرّ دائماً على أن يقول ويكرّر  “قصفنا- أو نقصف أو سنقصف- لأن “حزب الله” يستخدم هذه المنشآت معقلاً إرهابياً”. إنه يُحذّر ليحمي كيانه في المستقبل من أيّ محاسبة دولية. لا يتصرف أفيخاي ومن معه بعفوية. كل شيء محسوب بالسنتمتر.

 

كثير الحراك. يتكلم على عجلة. يستخدم اللهجة اللبنانية مع كثير من مقولات “ستي وجدي” مثل: “دود الخلّ منو وفيه” ، و “كفّوا عن بيع عنتريات”، و”الإناء ينضح بما فيه” ، و “إذا أتتك مذمتي من ناقص” ، و”لا تتمادى نخبزك خبز العباس” (عاد في المقولة الأخيرة إلى جذوره العراقية) وغيرها وغيرها… هو يتكلم و”يتهضمن” لكن “أفيخو” مغرور وليس مهضوماً.

يتحدث عن لبنان بصيغة المؤنث: “هذه هي لبنان”. ونراه ينبش بين الفيديوات “الفكاهية” التي تطال اسمه مجيباً عليها. وإلى من نسي يعود ويُذكّر: “الحرب ما زالت مستمرة (…) لذلك نناشدكم بالامتناع عن السفر جنوباً والعودة إلى حقول الزيتون”. ويا حرام أيضاً وأيضاً على حقول الزيتون في بلادنا. شجرة الزيتون المباركة تذرف أيضاً دماً كثيراً.

الكابتن إيلا

إيلا واوية. هذا اسمها. هي نائبة “أفيخو” تنطق باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي. وإلى من يسأل من هي تجيب: “أنا الكابتن إيلا. أنا أول من يُحدث العالم”. بابتسامة أفيخاي نفسها تتحدث. وبغروره تتابع. هي نسخة طبق الأصل عنه. تُسأل فتجيب. وتعطي ملخصاً أسبوعياً عن المسار. تتحدث عن القرض الحسن. وتتحدث عن زوجة السنوار “التي هربت بحقيبة فاخرة”. وتتحدث عن “يوم الحساب”. هي امرأة مسلمة ووجودها في “تكتيك” أولاد شالوم ضرورة. هي تكثر أيضاً من استخدام الأمثلة العربية الشعبية: “الدنيا دوّارة بتصيب الظالم بما ظلم والشامت بما شمت”. وفي كل ما تقول تتوجه إلى “جيل إيلا” (هي من مواليد العام 1989).

الكابتن ايلا

نعود إلى رئيسها، إلى “أفيخو”. بتنا نعيش على وقع تحذيراته. حياتنا باتت تُحدَّد وفق تغريداته. نستيقظ فندخل إلى صفحاته علّه يحذّرنا بما علينا فعله يومياً. هذا هو الفشل الكبير. الناس تطلب رأفته: “السيد أفيخاي نحن لا ننتمي إلى “حزب الله”. نحن في بعلبك. فهل نحن في أمان”؟ هذه هستيريا. ما نعيشه حقاً هستيريا. هو إمبراطور الموت في أوقاتنا القاتمة الغامضة هذه. نسمع عن انتصارات هنا لكننا نصغي صاغرين مقهورين مذعنين ضائعين واهنين إلى عدو يهدّد وينفّذ.

يكثر أفيخاي من التوجه إلى أسماء معروفة. يتجه إلى عادل إمام معايداً إياه بعيد ميلاده وهو يشاهد فيلمه “فلانتينو”. ولو ردّ إمام عليه لقال له “لا تحشر أنفك في حياة غيرك. تنفس أوكسجينك وأنت ساكت يا روح أمك”. “أفيخو” استعان في منشور أيضاً بأغنية راغب علامة “طار البلد” فردّ الأخير عليه بقوله “لن ينجح أفيخاي هذا في استدراجنا إلى الردّ، فهو لا يستحقّ منا هذا الشرف”. ردّ راغب على ما لا يرغب في الردّ عليه. بعدها، عاد وعايد جوليا بطرس في عيد ميلادها فردّت في بيان طويل ضمنته “رفضها لهذه المعايدة المريبة”. وعاد وحصل سجال بينه وبين أنغام التي قالت له: “ربنا ياخدك ويريحنا من وشّك”… هكذا “يتكتك” العدو ردوداً وتعليقات على من ينطق باسمه. ولا يمرّ كلام حسين مرتضى (الصحافي) عنده مرور الكرام. يستهزئ به ويسميه: “الكراكوز”. أما ميريام كلينك التي وجهت إليه طلباً لتهدئة الغارات لوجودها في صالون التجميل فقهقه لها كثيراً. وفي عيد ميلاد كاظم الساهر أهدى متتبعيه أغنية: “قولي أحبك”.

تحذير وانفصام

اللبنانيون، كل اللبنانيين، يتبعونه مرددين: كلّ تحذير لا يصدر عن أفيخاي أدرعي لا صحة له. ينتظرون تحذيراته يومياً فيهرعون ليقفوا على بعد 500 متر ملتقطين الحدث. ومعهم يهرع باعة عرانيس الذرة والنرجيلة الجاهزة. شعبُ لبنان مصاب حقاً بالانفصام.

بفكاهة أفيخاي تتساقط المباني وتتشلع الأجساد. هو بدّل أخيراً نظارته السميكة. أدرعي كسر “تابو” الاتصال بالعدو وأصبح المرجع الرسمي لكثيرين في دولة لبنانية اعتادت دائماً على الهروب في المحن. هو يُسأل فيجيب. هو يعرف أنه أصبح اليوم عنواناً في لبنان. هو تحدث عن انفجار مرفأ بيروت أيضاً متهماً “حزب الله” بتخزين 2750 طناً من نيترات الأمونيوم. لكنه لم يقل لنا كيف انفجر المرفأ؟ وكيف سارع “حزب الله” إلى نفي الأيدي الإسرائيلية في تفجير العاصمة اللبنانية؟

في خضمّ الدم المنهمر سيولاً لم ينس “أفيخو” أن يحيي، بين إنذارَين آخرَين، عيد ميلاده قاطعاً قالب حلوى كمن يقطّع الجغرافيا إرباً إرباً. هو يحبّ المعايدات ويعرف في الاستراتيجيات الملغومة ويلعب على صفيح ساخن ويُقهقه على وتر تحذيرات يومية بالموت. هو جنرال الموت الإعلامي في حربٍ تلتهم الأخضر واليابس. حربٌ تلعب فيها “الصورة”- حتى لو كانت صورة الموت- دوراً بارزاً. إنه الرجل الذي جعل عدوى “متلازمة ستوكهولم” تنتقل في لبناننا كما الفطر جاعلةً اللبناني يتبارى في تصوير موته أو موت أحبابه. وهذه أغرب ظاهرة في هذا الزمان.

أفيخاي أدرعي ولعبته اليومية
أنطوان سعد: إنها “متلازمة ستوكهولم” اللبنانية

“الشعب اللبناني لا يستخدم غالباً دماغه، بل غالباً ما تأتي أفعاله على شكل ردود فعل”. هذا ما انطلق به الاختصاصي في الطبّ النفسي وعلم الدماغ السلوكي والمشاعر والعواطف الدكتور أنطوان سعد، في شرح كل ما نراه من ظواهر وبينها ظاهرة “الانصياع الكامل إلى أفيخاي أدرعي وتصوير الغارات وإصدار النكات”. يقول سعد :” اللبناني فاشل على المستويين الشعبي والرسمي. لو استطاع اللبناني تصوير حتى موته لفعل، بدل أن يفكّر كيف يمكنه البقاء على قيد الحياة. فهل تتخيلون إنساناً يهرول لتصوير لحظات الدم والدمار؟ هذا دلالة على العجز. اللبناني ينجرّ إلى حرب لا قدرة لديه على مواجهة تبعاتها. وليس أمامه إلا أن يكون فيها الخاسر الأكبر”.

نعود لنسأل، أليس غريباً حقاً أن يقف لبناني لتصوير مبنى هناك من أنذر بإسقاطه على من فيه؟ هل يجد في ذلك لذة غير مفهومة في أي منطق؟ يجيب أنطوان سعد: “غريبٌ حقاً أن يهرول شخص إلى مكان ستحدث فيه مصيبة ليُصوّر بدل أن يبحث عن سبل منع حدوثها. هناك من يبدون وكأنهم يتقبلون ما يحدث من دون أي شعور لديهم بالعجز. نراهم يلعبون دور الضحية ويحاولون “بعقلية مريضة” تحويل الخسارة إلى مواجهة ومقاومة من خلال الصورة. مثلهم مثل مطلق شخص تموت كل عائلته ويطلّ مردداً: هذا طبيعي. هذا ليس طبيعياً. إنه فشل كبير. هو فشلٌ أن يساوي الإنسان بين الموت والحياة. هذا معناه أنه لم يفهم الحياة ولا يفهم الموت. هل تواصل مع الموتى وأخبروه عن سعادتهم؟ أكيد هم يضحكون عليه لأنهم أدركوا حجم الجهل في التعاطي مع مفهومي الحياة والموت”.

ماذا في تفسير من يصغون إلى العدو ويتبعون صاغرين تحذيراته؟ يستغرب الاختصاصي في علم النفس وعلم الدماغ السلوكي والمشاعر والعواطف “أن يثق اللبناني بالعدو أكثر من نفسه. هذه ذهنية مريضة. الناس باتوا يثقون بما يقول الناطق باسم العدو أفيخاي أدرعي (على سبيل المثال) وينفذون تعليماته بحذافيرها. يقول لهم ابتعدوا 500 متر فتراهم واقفين على مسافة 500 متر للتصوير”.

ماذا عن أدرعي هذا الذي يستخدم الفكاهة والمزاح أحياناً مع اللبنانيين؟ يجيب سعد: “في كلِّ شيء في هذه الحياة، لا يكون التواصل ناجحاً، خصوصاً مع الأعداء، إذا لم يقترن ببعض الفكاهة اللفظية، والمقترن أحياناً ببعض السخرية والاستهزاء. الناطق باسم العدو يستخدم هذه الوسيلة ويتفاعل بنفسه أيضاً مع السخرية من دون أن يشعر بالغبن والاحتقار والأذى حتى ولو تعرّض للسخرية. هو يلعب لعبة خبيثة لاعباً دور من يعطي التعليمات للعموم. هي تعليمات قد تكون صحيحة وقد لا تكون، لكن اللبنانيين أصبحوا يصدقون ما يقول هو بدل أن ينتظروا تعليمات من مراجع لبنانية. أصبح العدو الذي يغير عليهم يخبرهم ليحموا أنفسهم وهم يستجيبون. هذا فشل لبناني هائل. هناك حالة في علم النفس يصبح فيها الشخص يفرح بالخسارة والفشل وبكل ما هو سلبي. أصبح بعض اللبنانيين يعيشون حالة مرضية إنفصامية يُحوّل فيها الخسارة إلى انتصار. أصبح البعض يفرحون للموت والدمار والخسارة ويخبرون عن قوتهم في تحقيق ذلك أو حتى تصوير ذلك. هذا انفصام. هي نظرة تعويضية لكنها تبعية عمياء لشيء وهمي”.

يعيش أنطوان سعد خارج لبنان ويتابع- عن بعد- الهستيريا اللبنانية الحالية وهو يردد- حين يرى استجابة الناس لتعليمات أدرعي- “كم أن الشعب اللبناني غبي والمسؤول في لبنان مجرم. المسؤولون عندنا قتلوا الشعب مراراً، أكثر حتى من العدو، وجوعوه ودمروه. إسرائيل عدوة أما المسؤول اللبناني فبلا ضمير. المسؤولون في لبنان يهاجمون أنفسهم بأنفسهم مثل جهاز المناعة عند المريض بدل أن يحموا شعبهم. أما أدرعي فشخصية، حتى لو كرهناها، نتابعها. مع العلم أن المنطق يقول إن من يكره الآخر يبتعد عنه. أصبحنا مرضى متلازمة ستوكهولم التي تتعاطف فيها الضحية مع جلادها”.