عرش طفولة “سيلين” يهتزّ في “برج الملوك”…
من رحم الأزمات والحروب والكوارث، تولد روايات إنسانيّة تُظهر معاناة الأفراد الذين يعيشون في قلب المعاناة.
ومن بين هذه الروايات، تبرز قصة الطفلة سيلين يوسف، ابنة العشر سنوات، التي نزحت من منزل عائلتها الذي يقع في بلدة برج الملوك قضاء مرجعيون، بعدما أصبح وجودهم في هذه البلدة يشكّل خطراً عليهم. هذه القصة ليست مجرّد حكاية فرديّة، بل هي واحدة من آلاف القصص التي تتكرّر في المناطق اللّبنانيّة نتيجة الحرب الدائرة بين حزب الله وإسرائيل. سيلين التي كانت تلعب في فناء منزلها يوماً ما، أصبح الآن جزءاً من الذكريات فقط.
منذ أسابيع عدّة، نفّذ أهالي هذه البلدة المسيحيّة التي تقع إلى جانب بلدة القليعة، وقفة إحتجاجيّة تعبيراً عن رفضهم واستنكارهم لطلب الجيش الإسرائيلي بإخلاء بلدتهم فوراً، مشددين على أنّهم أناس عزل ومسالمون وأنّ البلدة خالية تماماً من أي سلاح أو مسلّحين.
وبالرغم من تجذّرهم في هذه الأرض، إلاّ أنّ الخطر دقّ بابهم والنزوح أصبح أمراً واقعاً لا مفرّ منه، فلم يُفرض على “سيلين” الخروج من برج الملوك الجنوبيّة فقط، بل خسرت كذلك حلم عودتها إلى منزلها مجدداً، إذ كما تقول لـ”نداء الوطن” إنّه مع المطالبة الملحة بالمغادرة، غادرت إلى بلدة القليعة مع عائلتها ولكن مع اشتداد رقعة القصف اضطرت، مع أهلها، للنزوح إلى بيروت.
وكأّنّ التاريخ يُعيد نفسه
التاريخ يعجّ بالأمثلة على حروب تبدو وكأنها لا تنتهي، بل تتجدّد على شكل صراعات جديدة تُعيد الخلافات نفسها على نحوٍ مختلف. في كثير من الأحيان، تدفع الأجيال القادمة الثمن الأغلى، من دون أن تكون لها يد في صنعها وخصوصاً بلدة “برج الملوك “، التي نزحت إليها عائلات من جبل لبنان في الحرب العالميّة الأولى نتيجة المجاعة التي ضربت الجبل بسبب حصار جمال باشا، فهذه البلدة كانت تقع خارج متصرفيّة جبل لبنان، لكن بعد مرورعقد من الزمن أصبح النزوح معاكساً، فالطفلة سليلين التي هربت في بداية الاشتباكات إلى القليعة ها هي اليوم في جبل لبنان.
وفي مشهد يختلط فيه الحزن والبراءة، تظهر صورة الطفلة “سيلين”، تحمل في يدها دميتها وكأنّها تمسك بآخر خيط من طفولتها وسط ظروف لا يعرفها إلاّ من عاشها، هذه الدمية كانت حافظة لذكريات طفولتها، ولم تكن مجرّد شيء ماديّ بل تمثّل شجاعة البقاء والصمود والتكيّف مع الوضع الراهن، حيثُ أكّدت أنّ هذه الدمية لها ذكريات عديدة معها وخصوصاً أنّها هديّة من خالها.
وعمّا إذا كانت الطريق آمنة أثناء نزوحهم إلى بيروت، أشارت سيلين إلى أنّ والدها قرّر سلك طريق البقاع لأنّه أكثر أماناً، ولكن الذعر كان يُخيّم عليها طوال الطريق خوفاً من أي غارة قد تستهدفهم. فبينما قد تكون الطرقات في الأوقات العاديّة ممراً طبيعياً للانتقال إلى مكان ما، تُصبح في هذه الظروف محفوفة بالمخاطر التي تزداد تعقيداً، ممّا دفع بوالدها إلى أخذ قرار الانقسام إلى سيارتين لكي لا تكون العائلة مجتمعةً في سيارة واحدة.
“أُريد أن أعود إلى منزلي، أُريد أن أذهب إلى مدرستي وألتقي بأصدقائي مجدداً”، ففي أعماق الطفولة، حيثُ البراءة والخيال لا حدود لهما، تتولّد أحياناً أمنيات مؤلمة تعكس واقعاً قاسياً يفوق ما يمكن أن يتحملّه عقل صغير، تخيلّوا أنّ هذه الطفلة البريئة “سيلين” تحمل في قلبها أمنية واحدة، تتمنّى من أعماق روحها أن تنتهي الحرب، وأن تعود إلى منزلها فقط.
كلمات “سيلين” قد تبدو بسيطة لكنّها تعكس واقعاً مريراً، فالحرب لا تدوم لكن جراحها تحتاج إلى سنوات لتلتئم ومع ذلك، فالأمل في غد أفضل لايزال قائماً في قلبها وتحمل معها قوّة الإرادة والتصميم على المضي قدماً. في النهاية، تبقى قصة هذه الطفلة الجميلة مثالاً للعديد من الأطفال الذين تهجروا من مناطقهم.
بين تفرّد حزب الله بقرار الحرب والسلم، يجد قسم كبير من الجنوبيين أنفسهم يدفعون ثمناً غالياً لم يختاروه، فبالرغم من كلّ الصعوبات، هناك أمل، أهل بلدة برج الملوك الذين صمدوا في وجه الحرب الأهليّة ودمارها، يعبّرون اليوم عن إرادتهم وصمودهم في استعادة حياة مستقرّة. هذه البلدة التي كانت ضحيّة لحروب الآخرين على أرضها، هي اليوم مصدر إلهام في الصمود والتحدّي.
فسيلين، التي عاشت على أصوات القذائف، هي اليوم نموذج حيّ للطفلة المقاومة من أجل لبنان فقط، والتي تصرّ على أن تعيش في وطن مسالم بعيد عن الصراعات الخارجيّة.