استياء سوري من “الصمت” الروسي على الضربات الإسرائيلية

استياء سوري من “الصمت” الروسي على الضربات الإسرائيلية

المصدر: النهار
2 تشرين الثاني 2024

منذ اشتكت روسيا في شباط (فبراير) من العام الماضي من توقف إسرائيل عن إبلاغها مسبقاً بالغارات التي تخطط للقيام بها في سوريا، أصبح التفاهم الثنائي بينهما بشأن آلية منع التصادم في الأجواء السورية غير واضح المعالم، ولا الحدود، ولا الضوابط، ولا حتى العواقب، وبالأخص خلال الشهرين الأخيرين، إذ وسّعت تل أبيب نطاق ضرباتها النوعية في سوريا، ودشّنت مرحلة جديدة من عدم استثناء مواقع الجيش السوري ومستودعاته من هذه الضربات، ولا حتى البنى التحتية المدنية، لا سيما المطارات والمرافئ.

ومن المفارقات أنه في الوقت الذي أتاحت القوات الأميركية المنتشرة في العراق للطائرات الإسرائيلية عبور الأجواء العراقية في هجومها الأخير على إيران، وتعمل تلك المنتشرة في سوريا، خصوصاً في قاعدة التنف، على إسقاط الصواريخ والمسيرات المنطلقة من إيران والعراق لاستهداف إسرائيل، فإن القوات الروسية المنتشرة في سوريا “بطريقة شرعية”، وبناء على طلب من الحكومة السورية، وفق ما يشدّد عليه دائماً المسؤولون الروس لتمييز انتشارهم عن الانتشار الأميركي اللاشرعي، تكتفي بالقيام بدور الشاهد والمراقب من دون أن ينعكس انتشارها العسكري الأكبر والأوسع على معادلات الصراعات وتوازن القوى في المنطقة كما يفعل الانتشار الأميركي الأقلّ والأصغر.

 

وإذا كان مبدأ الولايات المتحدة هو حماية إسرائيل، وهي تقوم بكل ما يتطلبه ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه ليس عن المبدأ الذي تعمل به القوات الروسية في سوريا، بل عمّا إذا كانت لدى روسيا أي خطوط حمر في سوريا تستطيع فرضها على الأطراف الأخرى وتمنعها من تجاوزها؟ وما يعزز من شرعية هذا التساؤل وصول الصواريخ الإسرائيلية إلى مستودع قريب جداً من قاعدة حميميم الروسية في ريف جبلة الشهر الماضي؛ فإذا كانت إسرائيل تجرؤ على ضرب مواقع بهذا القرب من القوات الروسية، فما الذي لا تستطيع ضربه إذن؟

 

قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، سلّمت روسيا بضرورة التغاضي عن استهداف إسرائيل الوجود الإيراني فوق الأراضي السورية، وأصبح هذا السلوك معتاداً ومنتظماً، وكانت له اعتبارات سياسية وعسكرية تكرّسه كأمر واقع لا مفرّ منه، وبالأخص في ظل العلاقات القوية التي كانت تجمع موسكو وتل أبيب. وكانت الأولى تشدّد على عدم استهداف مواقع الجيش السوري والبنى التحتية للاقتصاد، وهو ما أدى إليه اجتماع فلاديمير بوتين ونفتالي بينيت (رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك) خريف 2021، كما أن التنافس بين روسيا وإيران في سوريا ألقى بظلاله على الموقف الروسي إزاء الضربات الإسرائيلية، إذ ذهب الكثير من التحليلات إلى أن موسكو لا تمانع كلّ ما يؤدي إلى إضعاف نفوذ إيران في سوريا.

 

لكن استمرار الحرب الأوكرانية فرض الكثير من المتغيرات على صعيد العلاقة بين روسيا وإسرائيل من جهة، وروسيا وإيران من جهة ثانية، إذ في الوقت الذي تدهورت علاقة موسكو وتل أبيب على خلفية موقف الأخيرة الداعم لأوكرانيا، توثقت عرى التعاون بين موسكو وطهران، بل أصبحت طهران من أكبر الداعمين لروسيا على الصعيد العسكري، خصوصاً في ميدان الطائرات المسيرة. ويستعد البلدان للتوقيع على معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة قريباً، وفق ما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الجلسة العامة للمؤتمر الدولي الثاني للأمن الأوراسي في مينسك.

 

وقد انعكس هذا التعاون بين روسيا وإيران في الحرب الأوكرانية على علاقتهما في سوريا، حيث خفّت حدّة التنافس بينهما، وأصبحت العلاقة الثنائية تميل أكثر  إلى التنسيق. وكان من بوادر ذلك ما تحدثت عنه تقارير عديدة حول تدريبات مشتركة على استخدام الطائرات المسيرة، وقبول روسيا هبوط طائرات الشحن الإيرانية في مطار حميميم بعد ما كان ذلك من المحرّمات سابقاً.

لكن الأمر لم يتعدّ هذا الحد، وذلك على فرض صحة التقارير المشار إليها.

والمستغرب في ظل كل ذلك عدم صدور أي شكوى أو انتقاد من طرف إيران للسلوك الروسي، وهو ما يشير ربما إلى إدراك الطرفين حدود التنسيق الحقيقي بينهما، وأنها لا تتعدى في أحسن الأحوال مفهوم الدعم غير المباشر، من دون أن ينخرط أي بلد منهما في حروب البلد الآخر.

ولكن لم يعد الأمر يتعلق بإيران فحسب، إذ إن الضربات الإسرائيلية بلغت حدّاً غير مسبوق من حيث العنف والاتساع والكثافة في سوريا، وسط تهديد بعض الساسة الإسرائيليين بإسقاط نظام الحكم في سوريا أو تهديد آخرين باحتلال دمشق. ويأتي ذلك في ظل تحركات إسرائيلية في الجولان السوري شملت عمليات توغل وحفر وتحصينات مختلفة، بالإضافة إلى قصف مدفعي لبعض المواقع في القنيطرة.

وتآكلت سمعة الروس في سوريا شعبياً جراء هذا التفاعل السلبي مع التطورات في المنطقة، وأصبحت مقارنة روسيا بالولايات المتحدة تظهر حجم الفارق بين سلوك البلدين تجاه حلفائهما، وذلك على عكس الدعاية الرسمية التي تتهم واشنطن بالتخلي عن حلفائها.

وقد يكون ما له دلالته في هذا السياق أن هشاشة الموقف الروسي من الضربات الإسرائيلية فتحت ثغرة لتداول إشاعات تعكس بشكل أو بآخر عدم الرضا الشعبي عن الموقف الروسي، ففي الحادثة الغامضة التي حصلت في طرطوس في 9 أيلول (سبتمبر)، حيث أسقطت الدفاعات الجوية مجموعة من المسيرات فوق البحر، يهمس البعض بأن الهدف كان مرفأ طرطوس، وأن روسيا بدل التصدي للعدوان قامت بإخراج “ما يهمها” من المرفأ عبر سفينة. قد لا يكون هذا صحيحاً، وليس هناك ما يثبته عملياً، لكنه يعكس تراجع ثقة الشارع السوري بقوة روسيا وبقدرتها على الوقوف بوجه الضربات الإسرائيلية.

ولم يقتصر الأمر على الأوساط الشعبية، إذ بدأت بعض الأقلام النخبوية في سوريا، والمعروفة بقربها من السلطات، تثير تساؤلات حول الموقف الروسي. وفي هذا السياق، كتب الدكتور عقيل محفوض في موقع “أثر برس” الموالي والمدعوم من طهران مقالتين حول هذه القضية؛ الأولى بعنوان “روسيا وإسرائيل: مدارك تهديد متزايدة!” والثانية بعنوان “روسيا والاعتداءات الإسرائيلية على سوريا: الحاجة لاستجابة متناسبة”.

وإذ أكد عقيل أن “سكوت روسيا عن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سوريا، على رغم  التهديد الإسرائيلي بتوسيع ذلك، أعطى إسرائيل شعوراً أن بإمكانها زيادة التدخل في سوريا بكيفية يمكن أن تؤثر في خرائط  القوة والسيطرة في البلاد والإقليم”، فقد أشار أيضاً إلى أنه “عندما يصل الأمر إلى نقطة حرجة، قد يجد الروس أنفسهم تحت ضغوط متزايدة، ليس من جهة إسرائيل مباشرة فحسب، وإنما من جهة التأثيرات السلبية وارتدادات التدخل الإسرائيلي في المشهد السوري والإجهاد المتزايد في حالة سوريا أيضاً. وإذا هدد التورط الإسرائيلي وجود روسيا أو مصالحها في سوريا، وفي مقدمتها وجود سلطة الدولة السورية، لا يمكن لروسيا أن تتجاهل ذلك، وإلا فما معنى تدخلها في المشهد السوري عام 2015 عندما كانت الأخطار كبيرة ومتعددة الجهات والأنماط؟”.