الحرب الطّويلة تتعدّى غزّة ولبنان: إيران مكشوفة؟
يحتاج اللبنانيون إلى الكثير من الوقت لاستيعاب مفاعيل اغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله. وهذا ينطبق على العديد من قادة وسياسيّي دول المنطقة، لا سيما في محور الممانعة. فالضربة الإسرائيلية، الصعبة التصديق على بعض جمهور الحزب، تترك فراغاً لن يملأه إلا وقائع دراماتيكية على الصعيد الإقليمي.
الأسئلة الباقية بلا أجوبة لا تحصى، فيما لبنان في مهبّ الريح أكثر من أيّ وقت. فالمفاجآت تتوالى كالصواعق منذ تفجيرات “البيجر” في 17 أيلول. أسرع الأجوبة عند المعنيين هو أنّ الحرب مستمرّة وطويلة، وإن كانت أشكال استمرارها خاضعة لشتّى التكهّنات. أكثر الأجوبة القليلة، وضوحاً، أنّ تحوّلاً انقلابياً تشهده المنطقة، بعد نجاح التمهيدات لما سمّاه بنيامين نتنياهو “تغيير الشرق الأوسط”.
يصعب على من يتولّى منصب الأمين العام للحزب أن يكون له الوهج والتأثير اللذان تركهما السيد حسن نصرالله. شخصيّته الكاريزماتية لعبت دوراً في توسيع قاعدة أنصار الحزب على مدى العقود الثلاثة الماضية. الأرجح أنّ جيلين من الشباب في لبنان، مناصرين كانوا أو حياديين أو خصوماً، تأثّروا إيجاباً أو سلباً بظهور نصرالله وخطاباته. وهذا ينطبق على جيل على الأقلّ في دول أخرى.
نصرالله وخليفته وبرّي والتركيبة اللّبنانيّة
الأسئلة حول قدرة من سيخلف نصرالله على إدارة الصراع بالكفاءة نفسها التي تمتّع بها، تشمل مدى إدراك أيّ قيادة جديدة لتعقيدات التركيبة اللبنانية. على الرغم من أنّ نصرالله كرّس ابتعاد حزبه، لارتباطه الأيديولوجي بإيران، عن “الهويّة اللبنانية” لطائفته، فإنّه اختبر دقّة تلك التركيبة. صحيح أنّ نصرالله عرّض التركيبة الداخلية لاهتزاز كبير، بفعل إخضاع البلد لأولوية الولاء لمشروع إيران الإقليمي وتفرّعاته، لكنّ المواجهات مع مكوّنات البلد الأخرى، بوقائعها وأخطائها، صنعت له بعض الخبرة حول مدى حساسية الموزاييك اللبناني.
لعبت ثنائيّته مع رئيس البرلمان نبيه بري دوراً في اكتسابه تلك الخبرة، حين استطاع الأخير التأثير… وحين لم يستطع. والأرجح أنّ أيّ بديل لزعيم الحزب سينقصه اكتساب تلك الخبرة. وهذا من أسباب التعويل على دور بري في لملمة تداعيات الزلزال الذي أصاب الحزب والطائفة. فالأخيرة تشعر بالاستهداف على الرغم من الشعور بالتفوّق الذي حفّزته التعبئة السياسية والإعلامية في السنوات الماضية. وهذا ما يفسّر قول برّي في نعيه: “كسرني الرحيل بشهادتك”. فالضربة حصلت في سياق حرب إسرائيل على البلد، لتزيد من انغماسه العسكري والأمني في صراع مديد، وسط أشدّ حالاته ضعفاً.
لا أفق لانتظام المؤسّسات
الشكوك حول صمود الحزب أمام الخسائر التي تعرّض لها تنتظر ردةّ فعل إيران على الضربات التي تلقّاها أهمّ أذرعها، وسط دفق الأسئلة، ومنها:
1- هل يمكن للّبنانيين أن يعملوا على خفض الخسائر التي تضاعفها هشاشة المستوى السياسي في البلد بانتخاب رئيس للجمهورية؟
– لا يبدو أنّ الجواب الإيجابي متوافر على الرغم من فداحة الأضرار التي تلحق به في شكل غير مسبوق. القيادات الأكثر تحسّساً للحاجة إلى إنهاء الفراغ الرئاسي وانتظام المؤسّسات لتساهم في خفض الخسائر أبلغت “أساس” أنّها لا ترى إمكانية لهذا الاحتمال. فلا زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان حملت جديداً، ولا زيارة وزير الخارجية الفرنسي يمكن أن تعدّل في هذه الصورة.
أولويّة إيران ترميم قيادة الحزب لا الرّئاسة
– إيران، الجهة المعنيّة بتسهيل انتخاب رئيس وتشكيل حكومة جديدة، مشغولة بمعالجة تداعيات اغتيال نصرالله. بل إنّ ما يؤرقها حالياً هو إعادة تركيب قيادة الحزب وترميمها في أقصى سرعة. وقد قالتها بوضوح قيادة “حرس الثورة”: “سنساعد الحزب بتسمية من سيخلف نصرالله”. ومهمّة الردّ على الضربات، ومستواها، تصرفها عن المساهمة في معالجة مواطن الضعف الداخلية وتتركها لقيادات الداخل المكبّلة بأجندتها الغامضة حتى اللحظة. وعلى الرغم من تطمينات نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم أمس، فإنّ تعافي الهيكلية العسكرية وتحديد أهدافها وآلياتها يتطلّبان بعض الوقت للخروج من إرباك الضربات.
مخاطر الاهتزاز الأمنيّ وشروط الحصار الإسرائيليّ
– الاهتمام ينصبّ على تجنيب البلد أيّ اهتزازات أمنيّة جرّاء امتزاج وطأة التهجير واتّساعه مع ارتفاع المشاعر الطائفية، على الرغم من مظاهر التضامن الوطني والإنساني في معظم المناطق.
– تركيز الجهود على تعويض عجز السلطة وماليّة الدولة عن تلبية حاجات النزوح غير المسبوق في الحروب اللبنانية كافّة. والهمّ الرئيس الحصول على مساعدات إغاثية من الدول القادرة لسدّ الحاجات. هذا فضلاً عن التحسّب للحصار الذي أعلنته إسرائيل على البلد تحت عنوان الحؤول دون أن تهرّب إيران أو أيّ جهة أو دولة موالية لها أسلحة ومعدّات للحزب. تقديرات جهات سياسية معنيّة تحدّث إليها “أساس” أنّه باسم هذا الهدف الأمنيّ ستسعى إسرائيل، تعينها الولايات المتحدة الأميركية، إلى انتزاع أثمان سياسية من لبنان. فمقابل “السماح” بتمرير ما يحتاج إليه التشغيل اليومي لمرافق حيوية يرجّح أن تتسلّل شروط سياسية. وبعض الضربات العسكرية الإسرائيلية على الحدود جاءت في هذا السياق، وينتظر أن تستمرّ، فتشحن مواصلة الحرب بمزيد من الحجج والذرائع المعدّة سلفاً على امتداد الأراضي اللبنانية. وسبق للبنان أن اختبر حصاراً من هذا النوع في حرب 2006 بحراً وجوّاً وبرّاً، شمل المحروقات والموادّ الغذائية.
أيّ خيار ستسلكه طهران؟
2- أيّ وجهة ستسلكها طهران في إعادة تشكيلها لقيادة الحزب في المرحلة المقبلة؟ هل لمواجهة الضربات الإسرائيلية بردّ يصعّد المواجهة العسكرية؟ أم ستلائم إدارتها للساحة اللبنانية مع خيار مواصلة خطوط التواصل مع الإدارة الأميركية الذي اعتمدته في السابق؟ وهل تسعى للتخفيف من أضرار ما نجحت إسرائيل في إنجازه انطلاقاً من الوجهة التي سلكها الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، وفي هذه الحال تقتصر ردود الحزب على ما درج على القيام به ضمن ضوابط تحول دون توسّع الحرب؟ تحيط بهذه الأسئلة مؤشّرات بعضها يبقي الغموض والآخر يزيله بقدر وضوح التوجّهات الإسرائيلية والأميركية:
– الحرب على الحزب في لبنان هي بالتعريف السياسي حرب على إيران بدءاً بأهمّ أذرعها وأقواها، أي الحزب. وينتظر أن تترافق مع ضربات لتلك الأذرع في اليمن والعراق وسوريا.
إسرائيل لا تفصل بين غزّة ولبنان وإيران
– يثبت هذا التوجّه ما نقلته وكالة “رويترز” بعد اغتيال نصرالله، من أنّه تمّ نقل المرشد الإيراني علي خامنئي إلى مكان آمن داخل إيران، مع اتّخاذ إجراءات أمنية مشدّدة. فالقيادة الإيرانية لا تستبعد قصفاً إسرائيلياً للأراضي الإيرانية.
– فات أوان الفصل بين وقف الحرب في غزة وبين وقف النار على جبهة جنوب لبنان-شمال إسرائيل. فالآلة العسكرية الإسرائيلية انتقلت منذ مدّة إلى توحيد الجبهتين في العمليات العسكرية. وباتت الطائرات الإسرائيلية تلاحق القيادات الفلسطينية على الأرض اللبنانية وصولاً إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بل إنّ هذا التوحيد شمل كلّ قوى الممانعة وأذرع إيران بتأييد أميركي-غربي. والتباينات بين واشنطن وبعض دول الغرب من جهة، وبين إسرائيل من جهة ثانية في استهداف تلك الأذرع تقلّصت لأقصى الحدود. فالطائرات الإسرائيلية تواصل استهداف الحوثيين كما حصل أول من أمس في الحديدة ومينائها ومستودعات النفط فيها ومحطّتي توليد الكهرباء. هذا في وقت أغارت طائرات أميركية وبريطانية على مدينة صعدة، معقل الحوثيين.
كوشنير وإيران المكشوفة
تترسّخ القناعة عند من يعتبرون أنّ الحرب طويلة وهدفها بات يتعدّى غزة ولبنان إلى التغيير في موازين القوى على الصعيد الإقليمي. فالهدف إعادة إيران إلى داخل حدودها الجغرافية بعد تماديها في التوسّع. مقال صهر الرئيس السابق دونالد ترامب، مهندس “اتفاقات أبراهام” وصفقة القرن، عن نجاح إسرائيل في استهداف الحزب، يعزّز هذا التوجّه.
قال كوشنير ما لم تجاهر به الإدارة الأميركية: “.. إيران أصبحت الآن مكشوفة تماماً. السبب وراء عدم تدمير منشآتها النووية، على الرغم من ضعف أنظمة دفاعها الجوّي، هو أنّ الحزب كان بمنزلة البندقية المحمّلة والموجّهة نحو إسرائيل. وأمضت إيران 40 سنة في بناء هذه القدرة كرادع”. اعتبر كوشنير في سياق إعجابه بما أنجزته الدولة العبرية واغتيالها نصرالله أن “لا مجال لإسرائيل أن تتراجع… ولن تحصل على فرصة أخرى أبداً، وهذه ليست معركتها فقط”.