في مقتلة الزعامات… وأبعد
30 أيلول 2024
بذاكرة مثقلة “مجهزة” عند أي حدث جلل كاغتيال السيد حسن نصرالله، سرعان ما يعود اللبنانيون الى حقبات الكوابيس التي تتناوب على لبنان ولا “تكفّ” عنه ولو بتعديلات “محدثة”. قد يكون الأخوان الرحباني استبقا هذا الجانب التاريخي مما تحدثه مقتلة الزعماء في وجدان جمهورهم، ولكن على خلفية “بطل جبال الصوان” الذي يستشهد مقاتلاً “على البوابة”، والبوابة عندهما ما كانت إلا للوطن بأجمعه. ولذا تحوّلت مسارات اغتيالات الزعامات الكبرى في لبنان الى خط بياني تاريخي لا بدّ من عبوره لمن يحاول إدراك التداخل العضوي الأساسي بين واقع الزعامات وتأثيرها داخلياً وخارجياً.
كان للاغتيالات في تاريخ لبنان منذ خمسة عقود على الأقل مفاعيل أشد عمقاً من أي تطورات أخرى في بلوغ واقعه لجهة ارتباط الجماعات بالزعامات، علماً بأن البعد الطائفي التكويني غالباً ما يجعل دويّ المقتلة في الاغتيال أشد قوة واعتمالاً وتأثيراً لمدى بعيد. تناوبت الطوائف اللبنانية بشكل مذهل على تجرع كأس الاغتيالات السياسية بما يرسم خطاً لا تنفصل معه سيرة البلد بطوائفه عن سير الزعامات الكبيرة التي تحتل زمناً رحباً من صناعة مصائر الطوائف والسياسة والتاريخ في لبنان. والحال أن تناوب الطوائف على فقدان قادتها، وإن كان يمتد في عمق التاريخ الى قديمه، فإن “فاتحته” الكبرى في زمن الحرب امتداداً إلى أيامنا هذه كانت بلا شك مع الضربة القاصمة للدروز حين اغتيل كمال جنبلاط في مطالع تحوّل دراماتيكي في بدايات الحرب، وكان اغتيال بشير الجميل عند المسيحيين ذروة الاستهداف لمحو رمز القوة أيضاً، ثم كان اغتيال رفيق الحريري عند السنة عنوان أفول عصر التوهج، وكان اغتيال قادة ونخب في الخط السيادي عنوان ضرب منهجي للبنان النظام المتميز المستقل، فيما كانت الاغتيالات في صفوف “حزب الله” عنوان تفرد الشيعة بخط مقاومة إسرائيل، الى أن اغتيل السيد نصرالله الجمعة الماضي.
تضج تصفية الزعيم التاريخي لـ”حزب الله” بأبعاد وعلامات ازمنة تتجاوز زعامته للحزب والطائفة ليس لكون الصراع الذي قاده مع إسرائيل بلغ ذروة حربية غير مسبوقة فقط بل لأن السيد نصرالله صار، من حيث أراد لنفسه أو تراكمت عوامل ارتباط حزبه بالمعادلة الإقليمية لمحور “الممانعة” يختصر حصراً “وحدة الساحات”.
بذلك تجاوز اغتياله البعد التقليدي في استهداف الطائفة الى إعلان الحرب الإسرائيلية الشاملة على “حزب الله” ولبنان والمحور الممانع برمته. بخلاف “الأدوات “والأسلحة الاستراتيجية المحدثة التي زجت بها إسرائيل في هذه الحرب، غدا الاغتيال السلاح الأمضى والأشد فتكاً في رسم معالم اندفاعها المخيف إلى إشعال لبنان والمنطقة بلا هوادة، وبذلك تحوّل اغتيال السيد نصرالله الى عنوان متفجر مدوٍّ لا يقل في مستواه الاستراتيجي أهمية عن ذاك التحول الذي حصل عقب اجتياح إسرائيل للبنان وصولاً الى احتلالها بيروت كأول عاصمة عربية في عام 1982.
كان ذاك الاجتياح عنوان حقبة جديدة في الشرق الأوسط، والجاري اليوم في لبنان بعد غزة هو إرساء دموي لحقبة جديدة لا يمكن إطلاقاً التنبؤ بطبيعتها قبل توقف آلة الحرب والاغتيالات والسحق الجماعي. العامل الثابت الوحيد في المجريات الدموية الجارية هو أن ما يصنعه اغتيال القادة لدى جماهيرهم وطوائفهم وأنصارهم يغدو جزءاً لا يتجزأ من طبيعة وتفاعل المصير الداخلي للبلد بدليل الواقع السياسي الذي سبق أن واكب هذه الحرب وهذا الاغتيال المدوّي. فحذار إطلاق التصورات المتسرعة