هل ما زال هدف نتنياهو إبعاد الحزب 10 كلم حصراً؟

هل ما زال هدف نتنياهو إبعاد الحزب 10 كلم حصراً؟

الكاتب: شارل جبور | المصدر: الجمهورية
30 أيلول 2024

هل انتقل نتنياهو من الإبعاد إلى التدمير؟ بعد أقل من 24 ساعة على “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول، أعلن السيد حسن نصرالله الحرب على إسرائيل في 8 تشرين بعنوان “حرب الإسناد لغزة”، فيما كان يفترض فيه أن يمنح نفسه بعض الوقت للتفكير بالخطوة التي يمكن أن يُقدِم عليها إذا لم يكن على علم مسبق بحرب الطوفان، وأمّا إذا كان على علم واكتفى بالإسناد بعد التوغُّل الواسع والمفاجئ لحركة “حماس”، فيعني أنّ إزالة إسرائيل مجرّد شعار للاستهلاك، ودخوله الحرب بشكل متسرِّع وغير محسوب وضعه في عين العاصفة، بينما لو لم ينخرط فيها لكانت حافظت الحدود الجنوبية على هدوئها المعتاد، لأنّ عملية “حماس” جعلتها في وضع من انعدام الوزن العسكري والسياسي وتريد جبهة “بالناقص”.

أراد “حزب الله” من وراء الإعلان المتسرِّع للحرب ألّا يغيب عن صورة الحدث الكبير، فيما كان يفترض فيه أن يجمع أركانه في لبنان ويتشاور مع قيادته في طهران ويعطي نفسه مهلة أسبوع أقلّه قبل الانخراط في الحرب أو عدمها. هذه الحرب التي اعتبرتها تل أبيب منذ اللحظة الأولى بأنّها وجودية وستتعامل معها على هذا الأساس. ولو أجرى هذا التشاور المعمّق بدلاً من التسرُّع لكان أدرك أنّ انخراطه في هذه الحرب سيقحمه في حرب طويلة، يمكن أن تؤدّي إلى ضرب وضعيّته العسكرية.

ولم تقتصر دعسته الناقصة على تسرّعه في الحرب، إنّما غاب عنه كلياً حجم الاستعدادات الإسرائيلية لأيّ حرب محتملة بينه وبينها، ولا بل كانت لديه صورة خاطئة عن قوته الكفيلة بردع إسرائيل عن أي حرب معه، متّكئاً فيها على الإعلام الإسرائيلي الذي إحدى وظائفه تضليل أخصام تل أبيب، وهذا يعني أنّه يفتقر إلى أية معلومات أمنية عن هذه الاستعدادات، خلافاً لإسرائيل التي طورّت قدراتها الاستخباراتية استعداداً لأيّ حرب محتملة، وهذا ما ظهر بوضوح منذ الأيام الأولى للحرب التي كشفت الفارق التكنولوجي الكبير والخرق الأمني الواسع لصفوف الحزب.

فخطأ “حزب الله” الأول إذاً، تسرّعه في إعلان الحرب من دون أن يأخذ في الاعتبار أنّ حجم عملية “حماس” سيدفع إسرائيل إلى حرب غير مسبوقة لاسترداد صورة ردعها التي من دونها ينتفي وجودها، وهذا ما تمّ تداوله منذ اللحظة الأولى.

وخطأه الثاني، افتقاده لأيّ معلومات عن جهوزية إسرائيل الأمنية والعسكرية، واعتقاده أنّ عشرات الآلاف من صواريخه كفيلة بردعها وإخافتها.

وخطأه الثالث أنّه توقّع انتهاء الحرب سريعاً، فيكون حفظ ماء وجهه بدخولها وخرج منها كما دخل من دون خسائر كبرى ولا تغيير في الصراع معها. وخطأه الرابع أنّه لم يخرج منها بإعلانه انتهاء حرب المساندة، عندما أنهت إسرائيل عمليّتها العسكرية الأساسية.

ولو خرج كان وفّر على نفسه الخسائر الكبرى، خصوصاً أنّ واشنطن كانت تضغط للفصل بين الجبهتَين، وكانت على استعداد لترتيب الوضع بما يبقي على وضعيته خارج مسافة الـ10 كلم التي تطالب بها إسرائيل، وكان نجح في بيع هذه الورقة لواشنطن التي هي بأمسّ الحاجة إليها، لكنّه أخطأ في دخوله الحرب، وأخطأ في عدم التقاط لحظة الخروج منها.

وكان النقاش على مدى أشهر يتمحوَر حول التفاوض الأميركي غير المباشر مع الحزب، وإهمال المكوّنات السياسية الأخرى في البلد التي تريد دولة وسيادة ودستور، ووصل هذا النقاش إلى حَدّ التخوّف من أن يؤدّي إبعاده عن الحدود إلى سعيه للتعويض في الداخل، ولمزيد من وضع يده على البلد، لكنّه لم يلتقط الفرصة التي منحته إياها واشنطن، على الرغم من أنّ معالم المواجهة كانت توضحّت والأهداف الإسرائيلية كانت تكشفّت.

بالتالي، أضاع فرصة الخروج من الحرب في الوقت المناسب وبأقل خسائر ممكنة، خصوصاً أنّ حرب غزة انتهت عملياً ولا يقدِّم أي شيء في هذه الحرب.

فالهدف الذي وضعته إسرائيل لحربها مع “حزب الله” كان ينحصر في إبعاده 10 كلم عن الحدود تجنّباً لطوفان جديد لكن من لبنان هذه المرّة. فهي لا تخشى الصواريخ، وهذا واضح، لكنّها تخشى المفاجآت التي تجعل أعداءها في غفلة داخل أراضيها، والهدف الذي وضعته ليس جديداً ولا مستحدثاً، إنّما هو جزء بسيط وقليل من القرار 1701 الذي ينصّ على ألّا يكون هناك أي وجود عسكري للحزب في جنوب الليطاني كلّه وليس فقط على مسافة 10 كلم، ولا حاجة للتكرار بأنّ هذا القرار موقّع عليه من قِبل الحزب نفسه، بالتالي كان باستطاعته إعلان الالتزام بهذا القرار بعد أن انتهت حرب غزة، وكان نجح في الانقلاب عليه ووقف تطبيقه، والدولة عاجزة عن هذا التطبيق والمجتمع الدولي حدِّث ولا حرج.

على طريقة المثل القائل “غلطة الشاطر بألف” أدّى إصراره على مواصلة الحرب ورفض الوساطات كلها لوقفها، إلى نقل إسرائيل مواجهتها العسكرية من غزة التي سقطت عسكرياً إلى الجبهة الشمالية، واستهدفته بضربات موجعة من أجهزة الاتصال واللاسلكي، إلى فرقة “الرضوان” التي تُضاف إلى الاغتيالات السابقة لكوادره في عمليات نوعية الهدف منها ضرب بنيته العسكرية الأساسية.

كما ضُرِبت الروح المعنوية لهذا الجسم الذي تلقّى ضربات ليست في العقل ولا الحسبان، وأظهرت بوضوح أنّ المعركة غير متكافئة من بدايتها حتى اليوم.

وفضلاً عن وقوفه على أرض أُرهقت بفعل الدمار والتهجير والخسائر والمدة الطويلة التي استغرقها النزاع، والتحوّل الأخير في مسار المواجهة العسكرية التصاعدية، أعطى الانطباع بأنّ الهدف الأول الذي وضعته إسرائيل لحربها مع “حزب الله” تغيّر وتحوّل وتطوّر: فهل ما زال هدف نتنياهو ينحصر في إعادة سكان الشمال من خلال الاكتفاء بإبعاد “حزب الله” 10 كلم عن الحدود، أم تمّ تعديل هذا الهدف؟

الواضح من المتابعة السياسية وارتفاع منسوب الضربات الإسرائيلية، أنّ الهدف الأول تبدّل، وهذا الهدف كان بمتناول الحزب لو وافق على السير به، لكنّ إصراره على ربط وقف الحرب بوقف إسرائيل حربها في غزة أدّى إلى هذا التعديل، والحماوة التي تشهدها المواجهات، فضلاً عن الضربات النوعية المثلثة التي تلقّاها الحزب في غضون أيام، تؤشّر إلى ذلك.

وقد تكون هناك عوامل عدة وراء الدوافع التي جعلت تل أبيب تبدِّل في أهدافها من إبعاده لمسافة جغرافية، إلى ضرب وتدمير بنيته العسكرية كلها:

العامل الأول أنّ إسرائيل تعتبر الحرب الحالية آخر حروبها مبدئياً، ولا تريد أن تبقى قوة على حدودها تهدِّد أمن سكانها، وتريد أن تضمن أنّ التهجير الذي حصل هو الأول والأخير، ولن تُبقي سكانها في حالة قلق مستمرة، لأنّ القلق الذي ولّدته هذه الحرب في غزة وعلى حدودها الشمالية أدخل الشكوك إلى داخل بنيتها بأنّ جيشها أصبح عاجزاً عن توفير مقوّمات الاستقرار، وهذا ما تريد تبديده لأنّ قوة الردع عندها مسألة وجودية.

العامل الثاني، إنّ السيد نصرالله في إطلالاته على إثر عملية أجهزة الاتصال، أدخل جملة لم يكن مضطراً إليها، خصوصاً أنّ الكلام عن حزام أمني إسرائيلي داخل لبنان غير مطروح، ولا تستطيع تل أبيب العودة إلى ما قبل العام 2000، وجاء ردّه على بعض المواقف المتطرّفة والصحافة الإسرائيلية، بقوله، إنّه إذا كانت تعتقد بأنّ ردوده العسكرية ستقتصر على الحزام، فهي مخطئة، إنّما سيستهدف سكان الشمال وتهجيرهم مجدّداً، وهذا الموقف زاد القناعة الإسرائيلية بأنّ مسافة الـ10 كلم غير كافية، إنّما يجب التخلُّص من قدرات الحزب العسكرية.

العامل الثالث، إنّ تجربة القرار 1701 فاشلة، والعودة إليها تعني العودة إلى الوضع نفسه في ظل عجز الدولة اللبنانية عن تطبيقه. كما أظهر الاتكاء على القوات الدولية غير مجدٍ بدوره، بالتالي الاكتفاء بإبعاده لمسافة جغرافية والعودة إلى القرار الدولي نفسه لن يزيل تهديد أمن سكانها، وهذا ما يجعلها تفكِّر بعملية واسعة لتغيير المعطيات العسكرية تمهيداً لقرار دولي جديد أو تسوية تضمَن العودة إلى زمن اتفاق الهدنة.

والواضح أنّ إيران عاجزة عن مساعدته عسكرياً بسبب خشيتها من دخولها في مواجهة مع الولايات المتحدة. والواضح أيضاً أنّه لم يبقَ من وحدة الساحات سوى ساحة “حزب الله”. والواضح أيضاً وأيضاً، أنّ تاريخ 17 أيلول شكّل محطة الانتقال من هدف الإبعاد إلى هدف التدمير، على الرغم من تفوّقها الواضح في هذه المواجهة منذ لحظة إعلانها من السيد نصرالله، وعلى الرغم أيضاً من أنّ هدفها التدميري ستنجح في تحقيقه، بدليل ما تحقّق حتى الآن، لكن الأمور تُقاس بخواتيمها ونتائجها السياسية. فهل ستتمكّن من إنهاء خطر “حزب الله” المستقبلي، وكيف؟ وهل يمكن أن تعيد العلاقة مع لبنان إلى حقبة اتفاق الهدنة، وكيف؟