خاص – “الحزب” لن ينتحر…
عندما أعلن الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصر الله في كانون الثاني الماضي، أنّ “هناك فرصة تاريخيّة أمام لبنان لتحرير كامل أراضيه”، إنّما كان يفتح الباب أمام التفاوض على تسوية مع إسرائيل. عندها كان الموفد الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين قد أطلق مبادرته المتعلّقة بإنهاء التصعيد على الجبهة اللبنانية، عبر الاتفاق على انسحاب عناصر “كتيبة الرضوان” لمسافة معيّنة، في مقابل ترسيم الحدود البرّية وحوافز اقتصادية للبنان. لكنّ ربط نصر الله لحرب المشاغلة بحرب غزّة أرجأ أيّ بحث في حلول دبلوماسية.
ومع طول أمد الحرب في القطاع، ترنّحت مبادرة هوكشتاين. ولكنها، على رغم كلّ التصعيد الذي طرأ في الآونة الأخيرة، لم تسقط في شكل نهائيّ. وما زال الحزب يعتقد أنّها قابلة للنقاش، عندما يحين الوقت. كما أنّ إسرائيل تفضّل التوصّل إلى اتفاق مع لبنان، إنّما بشروطها التي شدّدتها اليوم، قياساً إلى ما كانت ترضى به في الأشهر الأولى للحرب.
وقع نصر الله أسير ربطه وقف حرب الإٍسناد بانتهاء الحرب في غزّة. ولم يعد في إمكانه التراجع عن قراره هذا. ولكن إسرائيل قرّرت من جانب واحد فصل المسارين. وباتت تعتبر أنّ حلّ المسألة الأمنية عند حدودها الشماليّة لا بدّ أن يتمّ في معزل عن غزّة، وأنّ الوقت ليس مهمّاً في هذا المجال، طالما أنّ الحسم سيحصل عاجلاً أم آجلاً.
ويرى مراقبون أنّ التصعيد الكبير فجر الأحد على جبهة لبنان، وما انتهى إليه من نتائج، قد أدّى الدور المطلوب. فهو أشعر الحزب بأنّ الخيارين المتاحين أمامه هما: الحرب الواسعة أو التسوية. ولن تقبل إسرائيل بأن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر. وقد أتى سيناريو الهجوم الإسرائيلي وردّ الحزب المتزامن على اغتيال فؤاد شكر، ليضع الأمور في نصابها. فالاحتقان الناجم عن الاغتيال وانتظار الردّ جرى تنفيسه بطريقة متكافئة. ويمكن الآن البدء من جديد.
لذا، يبدو أنّ المرحلة ما بعد 25 آب تتّسم بملامح مختلفة عن المرحلة التي سبقتها. فهي تعطي إشارات عديدة إلى نيّة الحزب التهدئة النسبيّة وفتح الباب أمام الحلّ الدبلوماسي. ويبدو أيضاً أنّ إسرائيل قد وُضعت في هذه الأجواء. لذا، حصل ما يشبه الاتفاق الضمنيّ على تأجيل الحرب، إلى أن تنضج الأمور للتفاوض.
وظهرت معطيات كثيرة تصبّ في هذا الاتّجاه، ومنها:
– طمأنة نصر الله اللبنانيين إلى أنّ في إمكانهم أن يرتاحوا في هذه الفترة، وأن يتنفّسوا الصعداء. وتزامن ذلك مع إعلانين واضحين صادرين عن كلّ من الحزب وإسرائيل بأن الهجوم الاستباقي انتهى، وكذلك الانتقام لاغتيال شكر.
– تكرّس، على الأقل مرحليّاً، أن الحزب فصل ردّه عن الردّ المنتظر لطهران. وعليه، فإنّ أيّ هجوم تنفذه إيران انتقاماً لمقتل اسماعيل هنيّة، لن يكون له تأثيره العسكري المباشر على لبنان.
– قيام المرشد الإيراني علي خامنئي بفتح الباب أمام احتمال عودة التفاوض مع الولايات المتحدة حول الملفّ النووي. وهذا يعطي إشارات إيجابية لواشنطن والغرب، خصوصاً إذا ما تمّ انتخاب كامالا هاريس، وليس دونالد ترامب، الذي كان قد ألغى العمل بالاتّفاق النوويّ في عهده.
– إشارة نصر الله إلى أنّ الصواريخ البالستية والدقيقة تمّ إخراجها من الجنوب. وهو إن كان يلمّح إلى أنّ المدى الجغرافي لم يعد مهمّاً، لأنّ صواريخ الحزب يمكن إطلاقها من البقاع مثلاً، فممّا لا شكّ فيه أنّه يمهّد الطريق أمام أيّ سحب محتمل للسلاح النوعي إلى ما بعد خطّ الليطاني.
– أتى التجديد لليونيفيل في الأمم المتحدة لسنة إضافية من دون تعديل، ليؤكّد أهمية دور هذه القوّات في المرحلة المقبلة، وتمسّك الدول بإرساء السلم في المنطقة، وفي لبنان تحديداً.
وما يلفت الانتباه أيضاً هو التزامن بين انتهاء أحداث 25 آب، وبدء الحملة العسكرية الإسرائيلية في الضفّة الغربيّة. ويقرأ البعض فيها أنّ في إمكان إسرائيل، خلال فترة العودة إلى قواعد الاشتباك مع لبنان، أن تركّز جهودها العسكرية على الضفّة، فيما جبهة غزّة تراجعت نسبيّاً.
هذا لا يعني أنّ جبهة لبنان لم تعد في طليعة اهتمام إسرائيل. فعلى العكس، تقف تلّ أبيب اليوم أمام مسألة ينبغي حلّها، وهي إعادة سكان مستوطنات الشمال إلى بيوتهم بأمان. وهذا سيتمّ بالحرب أو بالتفاوض في مرحلة لاحقة. فالحرب مكلفة للجانبين، خصوصاً للحزب الذي لا يريد أن يتكبّد المزيد من الخسائر في بنيته العسكرية، ولا يريد أن يخسر من نفوذه في الداخل اللبناني. وبما أنّه لن يرضى بأن ينتحر، فإنّه يملك من البراغماتية ما يخوّله الدخول في مفاوضات، يخرج منها الجميع رابحاً.