خاص- لودريان المسكين
مسكين هو هذا السبعيني القادم من عاصمة الأناقة والعطور الى عاصمة تفوح من معظم سياسييها رائحة النفاق والفساد بكل أوجهه. مسكين هو هذا الدبلوماسي المخضرم الذي صنع اسمه على مدى سنوات من العمل المضني في وزارة الخارجية الفرنسية، ليقع في نهايات حياته المهنية ضحية سياسيين مخادعين يقولون الشيء ونقيضه في جلسة واحدة، ويعتبرون ذلك فطنة ودهاء مطلوبين في “كارهم” الذي تعلموه خلف متاريس الحرب وليس في الجامعات العريقة المختصة في علم السياسة الحقيقية الذي لا يمت الى ما يحصل في لبنان بصلة.
مسكين هو جان إيف لودريان، ومسكين أيضًا رئيسه إيمانويل ماكرون الذي أرسله الى لبنان. فإذا كان الرجلان يعتقدان فعلًا بانهما قادرين على تحقيق خرق في الملف الرئاسي اللبناني، فتلك مصيبة. وإذا كانا مدركين أن لا إمكانية لذلك وبالرغم من ذلك أتى لودريان الى بيروت في مهمة رفع عتب أخيرة، فالمصيبة أعظم. فالسياسيون عندنا لا يمكن تهديدهم، لأنه إذا زال لبنان السياسي من الوجود كما قال الموفد الفرنسي، فهم سيبقون في لبنان الجغرافي ليعيدوا تأسيس لبنان آخر على صورتهم القبيحة ومثالهم، و”قطعانهم” ستكون دائمًا جاهزة للتصفيق لانتصاراتهم الوهميّة.
تعب السياسي الهرم لكثرة ما جال على المقرات السياسية والمراكز الحزبية والبيوتات السياسية العريقة منها والمستجدّة، ولم يصل الى نتيجة تذكر. حاول إقناع رئيس “المردة” سليمان فرنجية بالانسحاب لمصلحة مرشح ثالث توافقي، فكان رد الأخير بأنه مرشح طبيعي للرئاسة وله الحق في ذلك، متناسيًا في الوقت نفسه أن ترشيحه الطبيعي لم ينطلق بداية من دارته في بنشعي بل من عين التينة ثم من حارة حريك، ليكون بالتالي عمليًا المرشح الشيعي للمنصب الماروني الأول في البلاد.
لا مشكلة، قال الدبلوماسي المخضرم لنفسه بعدما فشلت “الخطة أ”. فرك جبينه مطوّلًا براحة كفه، استجمع قواه وانطلق الى عين التينة متأبطًا “الخطة ب” وملؤه الثقة بأنه سيقنع بها الأستاذ. بدّل كلمة حوار بتشاور محدود يتم بعده فتح أبواب القاعة العامة أمام انتخاب رئيس بجلسة مفتوحة ودورات متتالية حتى انبعاث الدخان الأبيض. ابتسم سيّد عين التينة لدى سماع الاقتراح وأيده بشدة، فانفرجت أسارير لودريان لاعتقاده أنه بات قاب قوسين أو أدنى من النجاح في مهمته. هنا عاجل الأستاذ ضيفه الفرنسي الذي لا يتقن اللغة العربية والتلاعب بمفرداتها، بملاحظة صغيرة أيقظت محدّثه من حلمه الوردي: أؤيد كل ما قلته بالحرف، مع التأكيد على أن جلسات الحوار أو التشاور أو النقاش، سمّها ما شئت، تكون برئاستي، فأنا الأستاذ، وأنا كبير السنّ بين الحاضرين، وأنا سيّد عين التينة وساحة النجمة وضواحيهما في الدولة والشارع على مدى عقود، فهل يجوز لغيري أن يقوم بمثل هذه المهمة الوطنية المصيرية؟
نزل اقتراح بري على مسامع مبعوث ماكرون نزول الصاعقة لأنه أدرك أنه عاد الى نقطة الصفر. لكن هذا السياسي العجوز عنيد بطبعه ويأبى الانكسار أو التراجع أمام العقبات التي تواجه مهمته. استجمع قواه مجددا، فرك جبينه ثانية، سحب من جعبته “الخطة ج” وانطلق بها مباشرة الى معراب على أمل أن يستمد من هواء الصنوبر والسنديان جرعة كافية من الأوكسيجين تساعده على مواصلة مساعيه. استقبله رئيس “القوات” بالترحاب وإن كان يعلم سلفًا أن لا أمل يرتجى، لأنه متأكد من أن الثنائي الشيعي لا يريد الانتخابات الآن، على أمل أن يستثمر في الداخل أي “إنجاز” يحققه “حزب الله” على الحدود. بعد تبادل اللياقات الدبلوماسية، سأل رئيس “القوات” ضيفة بلياقة وتهذيب فائقين: هل من تقدّم في عين التينة وحارة حريك يا سعادة السفير؟ بالطبع حكيم قال لودريان، وأضاف: أقنعت الرئيس بري باستبدال الحوار بجلسات مشاورات تؤدي الى جلسة انتخاب للرئيس. عظيم، اجاب جعجع قبل أن ينتقل الى السؤال الذي أنهت الإجابة عليه المقابلة: ومن يدير هذه المشاورات أو يترأسها يا سعادة السفير؟ هنا تغيّر لون السياسي المخضرم وتصبّب عرقًا باردًا لأنه أدرك بما لا يدع مجالًا للشك أن كل ما فعله لا يعدو كونه بناء لقصور على الرمال.
اعترف لودريان بخطأه لدى سيّد بكركي، تلا فعل الندامة على جهله لحقيقة مهمته الانتحارية، توجه الى قصر الصنوبر وجمع أغراضه وعاد خائبًا من حيث أتى.
مسكين هو لودريان، ليس لأنه لم ينجح في تقريب وجهات النظر بين الأقطاب اللبنانيين لجعلهم يتوافقون على انتخاب رئيس للجمهورية، بل إنه مسكين لأنه (ومعه الدبلوماسية الفرنسية) يعتقد أن الملف الرئاسي مشكلة لبنانية وأن حلها ممكن في لبنان. ومثل لودريان بعض أقطاب المعارضة في لبنان مساكين أيضًا، لأنهم يعتقدون أن الثنائي الشيعي هو من يعرقل الانتخابات الرئاسية لحسابات سياسية وطائفية، غافلين عن تجربة تأمين النصاب النيابي لجلسة التمديد لقائد الجيش العماد جوزيف عون بسحر ساحر نزولًا عند رغبة “خجولة” من الإدارة الأميركية وحلفائها في المنطقة.