خاص- الجمهور عاوز كده
لعلّ أصدق ما يقال في تطوّرات الساعات الماضية على مستوى المنطقة “تمخّض الجبل فولد فأرًا”. فقد أمضت شعوب المنطقة ساعات الليل حتى انبلاج الفجر بمشاهدة فيلم أميركي ضعيف الإخراج والتنفيذ تم إنتاجه بالتعاون مع شركات متخصصة في صناعة السينما والإعلام في كل من طهران وتل أبيب. إلا أن الغريب في الأمر، وهو دليل على نجاح الفيلم بالرغم من رداءته، أن جميع المشاهدين خرجوا من صالة العرض فرحين مهللين بانتصار وهمي جديد. إيران نفذت تهديداتها وردّت على استهداف قنصليتها في دمشق فاستعادت ثقة أذرعها في المنطقة. إسرائيل خرجت من كل مشكلاتها الداخلية وأوهمت شعبها بأنها قادرة على رد أي اعتداء على أراضيها، فضلًا عن استعادتها تعاطف دول صديقة لها كانت معها على جفاء بسبب حرب غزة. أما الولايات المتحدة فكانت الرابح الأكبر بحيث استطاعت المحافظة على موقع “المايسترو” الممسك بخيوط اللعبة في المنطقة، فلا تسقط شعرة من رأس أحد إلا بموافقتها وعلى توقيتها.
وفي إشارة الى رداءة الإخراج لا بد من التذكير بأمر وحيد: طائرة أميركية مسيّرة واحدة قتلت قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة “الحشد الشعبي” العراقي أبو مهدي المهندس وآخرين في بغداد. وطائرة إسرائيلية مسيّرة واحدة قتلت المسؤول في فيلق القدس عن دعم حركات المقاومة التابعة لإيران العميد محمد رضا زاهدي ومساعده العميد محمد هادي حاج رحيمي إلى جانب 5 مستشارين عسكريين إيرانيين آخرين في الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق. في المقابل أطلقت إيران 185 طائرة مسيّرة و36 صاروخ كروز و110 صواريخ أرض- أرض ولم يُقتَل إسرائيلي واحد، بحيث اقتصرت الخسائر الإسرائيلية على فتاة أصيبت بجروح طفيفة وبعض الأضرار المادية المحدودة في إحدى القواعد الجوية.
وللدلالة الإضافية على رداءة الإخراج الأميركي الذي منه هوليوود براء، أن إيران، وبعد 14 يومًا من إطلاقها التهديدات على جميع المستويات السياسية والعسكرية وصولًا الى المرشد علي خامنئي، لم تبدأ ضربتها قبل أن تبلغ الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية والكرة الأرضية كلها عبر وسائل الإعلام العالمية بالتفاصيل التالية: تاريخ الضربة مع التوقيت الدقيق، الإعلان عن إطلاق المسيرات والصواريخ لحظة إطلاقها، خط سير هذه المسيرات والصواريخ وصولًا الى اسرائيل، سرعة المسيرات والصواريخ وبالتالي المدة التي تستغرقها للوصول الى أهدافها بحيث يتم احتساب لحظة سقوطها بدقة، والمواقع المستهدفة بحيث أعلنت مسبقًا أنها لن تقصف أهدافًا مدنية.
أما بعد، وبعد 14 يومًا من الاستعدادات المريحة، انطلقت المقاتلات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية وغيرها في رحلة تدريب جوية مجانية وفّرتها لها إيران، فكانت بمثابة رحلة مملة لصيد البط فوق العراق وسوريا والأردن ولبنان وإسرائيل، حتى وصل الأمر بالطيارين الى اختيار “البطات الايرانية” التي يراد لها الوصول الى اهدافها من حيث النوعية والعدد ووجهة الرحلة.
أما إذا كانت إيران مربكة لأنها لا تريد استهداف المدنيين، فكان حريّ بها أن تستعين ببرنامج غوغل مابسgoogle maps فيعطيها إحداثيات وزارة الدفاع الإسرائيلية ومقر رئاسة الحكومة والسفارات الإسرائيلية حول العالم.. أو ربما كان حري بها أن تستعين ب”حزب الله” فيعطيها إحداثيات المواقع العسكرية التي يستهدفها من بوابة فاطمة الى حيفا وما بعد بعد حيفا، خاصة وأنه يملك بنكًا لأهداف لا تُعد ولا تُحصى في إسرائيل.
في الختام، أما وقد حصل ما حصل، فلا بد من النظر الى النصف الممتلئ من الكوب. فبالرغم من السهرة الطويلة التي أمضاها الجمهور في متابعة فيلم اعتبره مشوّقًا، يبقى الأهم أن هذا الجمهور من الطرفين خرج من الصالة سعيدًا بعدما أُسدلت الستارة، لأنه تبيّن أن المخرج الأميركي اهتمّ بالنهاية أكثر من اهتمامه بالتفاصيل، على خلفية اقتناعه بالمقولة المصرية القائلة “الجمهور عاوز كده”. فما أن كتبت عبارة the end على شاشات المتابعة حتى هبّ الجميع في واشنطن وطهران وتل أبيب وعواصم الممانعة للاحتفال بالنصر. إنها مفارقة عجيبة تحصل للمرة الأولى في التاريخ العسكري الذي اعتاد على خروج رابح وخاسر من كل معركة. اما في هذه المعركة الفريدة من نوعها فقد خرج الجميع رابحًا ومن دون تحقيق أي ضرر بأي طرف.
الى اللقاء في الجزء الثاني من الفيلم، ولو بعد حين، علّه يكون أكثر واقعية وأقل استخفافًا بعقول المشاهدين.