خاص – “رشوة” بقاء النازحين: الخلاف على المبلغ
الهمروجة التي أثارتها هبة المليون يورو من الاتحاد الأوروبي ليست أكثر من زوبعة في فنجان. فلا هذه الهبة تحلّ المشكلة ولا هي تزيدها أيضاً. ولكنّها أثارت حفلة مزايدات في المكان الخطأ. ومن أجل لملمة الموضوع، أخذ رئيس مجلس النواب نبيه برّي على عاتقه احتواء الحملة التي طالت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، عبر الجلسة النيابية التي تعقد الأربعاء للبحث في موضوع الهبة، وإصدار توصية في ملفّ النازحين، تحدّد موقف لبنان الرسمي من المسألة لمرّة أخيرة.
هذا في الشكل. امّا في المضمون، فيبدو أنّ ما حصل، معطوفاً على جريمة مقتل المسؤول القوّاتي باسكال سليمان، قد فتح الباب على مصراعيه أمام استغلال ملفّ النازحين لخلفيّات سياسية، على رأسها إعادة تعويم النظام السوري في نظر المجتمع الدولي والعربي. فأوان “استثمار” ملف النازحين قد حان، ونضُجت طبخة الحوار مع الحكومة السورية حول الموضوع، والذي دأب مؤيّدو “محور المقاومة” على الدعوة إليه منذ فترة بعيدة.
لذلك، فإنّ الجلسة النيابية التي ستُخصّص لبحث الملفّ لن تقدّم أو تؤخّر من الناحية العملانية. وكشف أحد النواب لموقع beirut24 أنّ البعض طرح إلغاء الجلسة أو عدم الدعوة إليها، على أساس أنّ مبلغ المليار المقسّط على أربع سنوات، كان يصل إلى لبنان طوال السنوات الماضية في شكل تلقائي. فلماذا يجري الحديث عنه اليوم وكأنّه هبة أو “رشوة”، ولماذا يُثار حوله كلّ هذا الدخان؟
ولكن في المقابل، تعتبر جهات أخرى، وأبرزها القوى المسيحية، أنّ من المفيد جداً أن تصدر توصيات عن المجلس النيابي، تشكّل في الواقع الموقف اللبناني الجامع حول رفض بقاء النازحين السوريين في لبنان، على غرار رفض توطين الفلسطينيين الذي أصبح جزءاً من الدستور اللبناني. ومع ذلك، فإنّ هذه التوصيات التي ستصدر، لن تمنع استغلال الملفّ إلى أقصى الحدود والمتاجرة به لأهداف لا تصبّ في مصلحة لبنان في نهاية المطاف.
وأتت كلمة الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصر الله أمس، لتكشف بكلّ وضوح الوجهة التي يريد الحزب توظيف ملفّ النازحين فيها. فقد دعا إلى “قرار وطني بفتح البحر مام السوريين الذين يريدون الهجرة إلى أوروبا”. كما دعا إلى تشكيل وفد لبناني يذهب إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية للضغط من أجل إلغاء قانون قيصر والعقوبات المفروضة على النظام السوري. وهذا يسمح بدخول الأموال إلى البلاد من أجل إعادة الإعمار، وبالتالي “مساعدة سوريا على عودة اللاجئين”. وبذلك، بدا نصر الله كأنّه يجعل من عودة اللاجئين مسؤولية تقع على عاتق لبنان وحده. فالمطلوب، حسب وجهة نظره، أن يستعمل لبنان ورقة النازحين من أجل رفع العقوبات عن سوريا. وهو أغفل بذلك العوائق الأساسية التي تحول دون ايجاد مخرج لملف النازحين، وهي أوّلاً رفض النظام السوري لإعادتهم، ثمّ عدم رغبة دمشق في التوصل إلى حلّ سياسي للأزمة السورية عبر دستور جديد وحكومة تشارك فيها مكوّنات المعارضة، وهو ما يشترطه المجتمع الدولي كنقطة انطلاق لرفع صفة اللّاشرعية عن الحكم في سوريا، وبدء الحديث معه. أمّا نظام الأسد فيهوى تنفيذ لعبته المفضّلة، وهي استخدام أوراق الضغط والأمن والهجرة وسواها، من أجل جعل المجتمع الدولي ينصاع في النهاية لمطالبه. ولسوريا تجارب كثيرة ناجحة في هذا المجال، عندما سلّمت واشنطن دمشق إدارة الوضع اللبناني تحت ستار حفظ الأمن، وعندما صمد النظام من الانهيار بعد ثورة 2011، بحجة انّ سقوطه يشرع الأبواب أمام المنظمات المتطرفة والإرهاب.
كما اعتبر نصر الله أن “لا مناص من التواصل مع الحكومة السورية” إذا أراد لبنان حلّ مسألة النازحين. وكأنّ لبنان هو المسؤول عن مأساتهم، وليست سوريا، وكأنه الوحيد الذي عليه السعي لعودتهم، وليس النظام مثلاً، أو الدول الغربية التي تنادي بحقوق الانسان، وترفض عودة غير آمنة للسوريين، بينما لا يرفّ لهذه الدول جفن أمام المعاناة اللبنانية من الوجود السوري، سواء من الناحية الديموغرافية أو الأمنية أو الاقتصادية.
وبالفعل، انصاع لبنان الرسمي للضغوط السورية، فقرّر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عدم المشاركة شخصياً في مؤتمر بروكسيل للاجئين المقرر في 27 أيار الحالي، وكلّف وزير الخارجية عبد الله بو حبيب ترؤّس الوفد اللبناني. وقد بدا بو حبيب يبرّر أمام السوريين أسباب مشاركة لبنان، بعد رسالة وصلته من نظيره السوري فيصل المقداد تنتقد تغييب سوريا عن المؤتمر. كما أُعلن بالتزامن عن اتصال أجراه ميقاتي برئيس الحكومة السورية حسين عرنوس، والاتفاق على لقاء بينهما على هامش القمة العربية التي ستعقد في البحرين.
وعليه، من الطبيعي أن تترك كلمة نصر الله عن وجوب فتح البحر أمام النازحين السوريين، ظلالها على الجلسة النيابية غداً. لذا، ترجّح مصادر نيابية أن لا يصار إلى اتخاذ قرار مباشر برفض الهبة أو قبولها، على أساس أنّها غير مربوطة بشروط، كما سيوضح ميقاتي في كلمته أمام المجلس، وهي في إطار المساعدات المنتظمة التي يقدّمها الاتحاد الأوروبي للبنان لإدارة ملفّ النزوح. وبما أنّ الهبة “ما بتحرز”، فإنّ اللوم على ميقاتي قد يكون أنّه رضي بهذا المبلغ الزهيد. وإذا كان في إمكان لبنان المساومة على ضبط الهجرة، فلمَ لا يكون ثمن ذلك مليارات الدولارات، وليس ملياراً واحداً. فالخلاف ليس على مبدأ الهبة، بل على السعر.