خاص- لا تصدّقوه

خاص- لا تصدّقوه

الكاتب: نبيل موسى
4 آذار 2024

يُحكى عن راعٍ عتيق كان يعمل لدى أحد أعيان القرية ويتوجه بقطيعه صبيحة كل يوم الى المرعى في خراج بلدته الهانئة التي يقطنها أناس طيببون. كل فترة كان هذا الراعي المتحاذق يصرخ لأهل القرية طالبًا العون مدعيًا أن ذئبًا يهاجم القطيع، وعندما يهرع شبان القرية لنجدة الراعي يكتشفون أنه يحاول المزاح معهم وأن لا ذئب في المحيط ولا من يحزنون. أعاد هذا الراعي “الشاطر” التمثيلية نفسها مرات عدة حتى لم يعد أهل القرية يصدقونه. وفي أحد الأيام هاجم ذئب كاسر القطيع وراح الراعي يصرخ بأعلى صوته طالبًا النجدة، إلا أن أحدًا لم يصدقه ولم يأت احد لنجدته، فقتل الذئب المفترس الراعي ونكّل بما تمكّن من القطيع.

ويُحكى عن راعٍ آخر مخضرم، عندنا، كان يرعى، مع مساعده الشاب الذي يعتبره بمثابة ابنه، قطيعًا كبيرًا من الخراف الضالّة او المضلّلَة، يقوده كيفما يريد وبالاتجاه الذي يراه مناسبًا. وفي أحد الأيام، وبينما كان جالسًا في الطبيعة ويراقب خرافه عن كثب، عثر على ذئب صغير أضاع أمه في البريّة. نده الراعي لمساعده وسأله: ما رأيك؟ ماذا نفعل بهذا الذئب الرضيع؟ نصحه مساعده بأن يربيا هذا الذئب ويعملا على ترويضه وتدريبه ليكون بمثابة كلب حراسة للقطيع، مكتسبًا قوة الذئب في الانقضاض على العدو ووفاء الكلب في التعامل مع صاحبه.

أخذ الراعي بمشورة مساعده، واستبقى الذئب الصغير معه بعدما أطعمه من حليب إحدى نعاجه، على أمل أن يكون بمثابة الأخ لصغار الخراف. وأقسم الراعي بشفيع القرية رئيس الملائكة مار مخايل بألا يخون العهد مع صديقه الجديد حتى انقضاء أحد الأجلين، أي أن يموت الراعي أو يموت الذئب.

مرّت الأيام، والراعي حفظ العهد، وكذلك فعل الذئب. ولكن، ما لم يكن في الحسبان أن هذا الراعي البسيط تحوّل فجأة الى شيخ للقرية بعدما استولى على القطيع وراح يرهب السكان بالذئب الذي كان يرافقه دائمًا ويهم بالانقضاض على من يقترب منه. وهكذا تطوّرت العلاقة بين الصديقين: قدم الذئب للراعي السلطة على أهل القرية، فيما قدم الراعي لرفيقه الذئب الحماية من السكان حتى لا يجرؤ أحد على أذيته.

مرّت السنوات والحال على هذا المنوال، الى أن قرر الراعي العجوز الذي دهمه المرض التوقف عن العمل والاستراحة في منزله بما تبقى له من عمر. سلّم الراعي مساعده الشاب القطيع طالبًا منه السهر عليه والاعتناء به. إلا ان هذا الشاب الذي تربى على ايدي معلمه تجاوز معلمه سوءًا وتخطاه بأفعاله الشريرة تجاه أهل القرية، مستعينًا دائمًا بالذئب الذي ورثه عن معلمه.

وفي أحد الأيام حصل ما لم يكن في الحسبان. عاد الذئب الى طبيعته المفترسة وراح يفتك بالخراف غير آبه بأوامر صاحبه حتى بات الأخير يخشى على نفسه منه. ثم راح هذا الذئب يضرب يمينًا ويسارًا بكل ما ومن يصادفه في القرية، حتى تعدّى شرّه حدود القرية الى القرى المجاورة. ولما استشعر الراعي الشاب خطرًا حقيقيًا على نفسه وقطيعه وسكان قريته، سارع الى كبار القرية طالبًا النجدة، مبديًا ندمه الشديد على كل ما فعله هو ومعلمه، أملًا بمسامحة ينالها من بني قومه. وقال الراعي لشيوخ القرية: أنا نادم من كل قلبي على كل ما جلبه الذئب من ويلات للقرية، وأتعهد أنا ومعلمي بأن ننفذ كل ما تطلبونه، حتى أننا مستعدون  لطرد الذئب من القرية، على أن نعود رفاقًا وأقارب واصدقاء يدًا واحدة في مواجهة أي ذئب غاز أو ضبع تائه.

وبينما راح العقلاء يفكرون في ما قاله الراعي الشاب، وقف شيخ مسنّ متكئًا على عصاه ليقول بصوت ملؤه الأسى على ما آلت إليه أوضاع القرية بسبب الراعيين وصديقهما الذئب: من مثل هؤلاء لا يعرف الندم الى قلبهم طريقًا. من مثل هؤلاء أدمن السلطة الى حد التسلط لا يمكنه أن يتنازل عنها بسهولة. من مثل هؤلاء يستعين بأنياب غيره ليرعب أهل بيته لا يؤتمن جانبه. من مثل هؤلاء يخطئ عن عمد وهو يعرف مسبقًا حجم خطيئته، لا تجوز له المغفرة. من مثل هؤلاء، ثعلب مخاد يعاشر ذئبًا مفترسًا لسنوات ويتقاسم معه دجاجات القرية وخرافها لا يؤتمن جانبه.. فلا تصدّقوه.