خاص- أوقفوا الكلام.. وابدأوا العمل
أكد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أن “تأخير انتخاب الرئيس أدّى إلى فوضى والسقف سينهار على الجميع”. ومثله مطران بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس الياس عودة، في كل عظة، يقارب الملفات الوطنية والمسيحية محذرًا من الانهيار. في الآحاد والأعياد يتولى رجال الدين المسيحيون رفع الصوت على أمل أن يسمع من له أذنان سامعتان، أما في بقية أيام الأسبوع فيكون الدور للزعماء والمسؤولين السياسيين ورؤساء الأحزاب والتيارات المسيحيين للتحذير من خطر استبعاد المكوّن المسيحي من مراكز القرار في الدولة في ظل الشغور الرئاسي، كما من سيطرة “حزب الله” على الدولة، مبدين مخاوفهم على مستقبل الوحدة الوطنية وتاليًا الكيان اللبناني ككل.
إزاء هذا الواقع، ثمة من يطالب بحل يبدأ باللامركزية الإدارية الموسّعة، فيما يرى آخرون أن الفيدرالية هي الحل الأمثل للخروج من أزمة النظام التي تتخبط فيها البلاد، فيما هناك رأي ثالث، وإن كان لم يرفع الصوت عاليًا بعد، يذهب الى ما هو أبعد من ذلك، إذا انتفت إمكانية العيش معًا بحرية وعدالة ومساواة.
وبينما يتلهى الزعماء المسيحيون بالتصريحات الكلامية والمواقف الإعلامية، وجد المشروع الفارسي المتمثل ب”حزب الله” في لبنان الوقت الكافي لبناء دولته على كافة المستويات، علمًا أنه في الوقت نفسه كان يعمل على إسقاط الدولة اللبنانية بالنقاط بعدما اقتنع بعدم قدرته على إسقاطها بالضربة القاضية، لأسباب خارجية أكثر منها داخلية. فقد بنى الحزب جيشه الذي بات يتفوق على الجيش اللبناني عدة وعديدًا، وأقام مصرفه المركزي (القرض الحسن) بعدما كان بالتعاون مع مجموعة من السياسيين الفاسدين على وشك القضاء على القطاع المصرفي، وسيطر بقوة الأمر الواقع والسلاح غير الشرعي على الحدود البرية والمطار والمرافئ، وتحكّم بالقرار السياسي بعدما أمسك بقرار الحرب والسلم محوّلًا حكومة تصريف الأعمال الى ناطق باسمه، فضلًا عن المؤسسات الصحية والتربوية والاجتماعية التي أنشأها والتي تهتم برعاية بيئته الحاضنة على كافة المستويات. وبعد كل ذلك لا يتورع “حزب الله” عن مهاجمة المطالبين باللامركزية او الفدرالية، وصولًا الى حد التشكيك في وطنيتهم وتخوينهم احيانًا.
في المقابل، يكتفي المسؤولون المسيحيون، ومعهم الوطنيون السياديون من الطوائف الأخرى، بالتصريحات، وهو ما يطمئن “حزب الله” على واقعه ومستقبله، انطلاقًا من مبدأ “قولوا ما تريدون ونحن نفعل ما نريد”.
إلا أن الوضع لم يعد يحتمل، والوقت لم يعد في مصلحة الدولة ومواطنيها. وانطلاقًا من ذلك بات لزامًا على الجميع التوقف عن الكلام والبدء في العمل، أو ربما العودة الى كلمات النشيد الوطني “قولنا والعمل”. لا بد من تشكيل جبهة سياسية عريضة رافضة للأمر، الواقع ركيزتها المسيحيون وتضم مسؤولين من جميع الطوائف، تكون مهمتها وضع مبادئ عامة محدّدة وخطة عمل لتحقيق الأهداف الموضوعة، تمهيدًا للانطلاق الى المحافل الدولية، من جامعة الدول العربية والأمم المتحدة وعواصم القرار، لوضعها في صورة الواقع اللبناني الحقيقي، وتحميل هذه المرجعيات مسؤولية عدم تطبيق القرارات الدولية الكفيلة بانتظام الأمور في الدولة ومؤسساتها.
في الموازاة، بات لزامًا على الأحزاب المسيحية مجتمعة، بالتعاون مع المرجعيات الدينية المحلية والخارجية وبإدارتها، دعم صمود المسيحيين وترسيخ مقاومتهم الاجتماعية من خلال استنساخ تجربة “حزب الله” (غير العسكرية طبعًا)، أو ربما تجربة “القوات اللبنانية” في ثمانينات القرن الماضي، عبر إقامة مؤسسات صحية وتعليمية واجتماعية تفرض “اللامركزية الشعبية” واقعًا على الأرض دون استجدائها من أحد. فما الذي يمنع تأسيس شركات كهرباء مناطقية على مستوى الأقضية على غرار كهراء زحلة، أو معامل مناطقية لفرز النفايات وطمرها، أو شركة باصات لنقل الطلاب والموظفين بأسعار مخفضة على الخطوط الرئيسية، أو شركة تضم سلسلة سوبرماركت تبيع المواد الغذائية بسعر التكلفة والتشغيل للمواطنين، أو صندوق تعاضد صحي استشفائي مدعوم يستفيد من خدماته كل من ليس لديه أي نوع من التأمين الصحي، أو مدارس شبه مجانية في المناطق، أو تقديم منح قيّمة في الجامعات لذوي الدخل المحدود، أو مصنع.. كما لا بد من دعم البلديات والاتحادات في مشاريعها المحلية الصغرى والمتوسطة، لأن البلدية تشكل الخلية الرسمية الأولى أو الجمهورية المصغرة في منطقتها من حيث الأمكانات والتقديمات.
هذه المشاريع، وغيرها الكثير، كلها نماذج قابلة للتنفيذ السريع إذا وُجدت الإرادة، وهي بالتأكيد تخدم المواطن وتساعده على التشبث بأرضه ليتجاوز المرحلة الأشد صعوبة في تاريخ لبنان بأقل الأضرار، وهي في الوقت نفسه لا تكلّف مطلقيها الكثير لأن المواطن المستفيد سيدفع تكلفة الخدمة التي سيحصل عليها تقريبًا من دون أن يقع ضحية التجار والسياسيين.
فإذا سلمنا جدلًا بأن الحلول الكبرى في لبنان والمنطقة من غزة الى اليمن (وكلها للتذكير سببها المشروع الإيراني للسيطرة على الشرق الأوسط) يلزمها الكثير من الجهد والوقت والمفاوضات وصولًا الى تسويات كبرى على مستوى الإقليم، فما الذي يمنع كنيستنا بالتعاون مع زعمائنا وقادة أحزابنا من التقليل من الكلام والانتقال الى العمل الصالح الذي يدعم صمود ما تبقى من عائلات باتت ترزح تحت وطأة أوضاع لا تحتمل على كافة المستويات؟
بالله عليكم، اختلفوا في السياسة قدر ما شئتم.. ولكن اتفقوا على الإنسان.