
خاص- فلنحترم إرادة الخالق
رحم الله قداسة البابا فرنسيس، رجل السلام وبابا الفقراء، رجل الانفتاح الإنساني والحوار بين الأديان والثقافات، الذي رحل عن عمر ناهز الثمانية وثمانين عامًا أمضى منه اثني عشر عامًا ونيّف على رأس الكنيسة الكاثوليكية. الكرة الأرضية كلها، بقادتها الزمنيين والروحيين، أجمعت على الإشادة بهذا الرجل الاستثنائي الذي أبى أن ينتقل الى ديار الخلد، بعد صراع طويل مع المرض، إلا برفقة السيد المسيح القائم من الموت في عيد الفصح،. لم يرأس الحبر الأعظم قداسي الجمعة العظيمة وعيد الفصح واكتفى بإلقاء مباركة العيد التقليدية على المؤمنين المحتشدين في ساحة القديس بطرس.. ورحل بصمت وخشوع.
رحيل البابا الـ266 تزامن مع سقوط البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي على الأرض بعدما تعثّر بثوبه في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي في أثناء ترؤسه الذبيحة الإلهية بمناسبة عيد الفصح، ما أدى الى تعرضه لكسر في الورك تطلب خضوعه لعملية جراحية عاجلة. البطريرك الراعي البالغ من العمر 85 عامًا، كان حديث بعض وسائل الإعلام والمسؤولين لجهة ترداد معلومات عن نيته الاستقالة في مطلع الصيف المقبل لأسباب صحية، بعدما أمضى أربعة عشر عامًا على رأس البطريركية المارونية.
التزامن الغريب بين وفاة البابا فرنسيس بعد مرض عضال، وحادثة سقوط البطريرك الراعي بعد ارتفاع وتيرة التسريبات عن نيته الاستقالة، يطرح سؤالًا كبيرًا ظل الى الآن من المحظورات وظل بالتالي من دون إجابة: لماذا يصرّ الإنسان على معارضة مشيئة الخالق لجهة النمو الطبيعي للكائن البشري؟
من الثابت طبيًا واجتماعيًا ان مرحلة التطوّر العقلي والذهني والجسدي والمعرفي للإنسان يبدأ بولادته ويمتد تصاعديًا حتى بلوغه الأربعين من عمره، لتبدأ بعدها مرحلة التراجع على كافة المستويات، وصولًا الى الشيخوخة الممرّ الإلزامي قبل الانتقال الى العالم الآخر. وبالرغم من ذلك، تصرّ المرجعيات الدينية، في جميع الأديان والطوائف والبلدان، على تسليم أمور رعاياها ومستقبلها الى رجال دين غالبًا ما يكونون قد تجاوزوا بكثير سن التقاعد المعمول به في الوظائف الدنيوية. واللافت أيضًا أن هذه المرجعيات تتمسك بمواقعها (إلا في ما ندر) حتى الرمق الأخير، رافضة التنحي والاستقالة إفساحًا في المجال أمام الأجيال اللاحقة المرتبطة أكثر بقضايا العصر وأزماته.
في عالم السياسة لا يبدو الأمر أفضل. ولعل أبرز مثال على ذلك حالة انعدام الوزن التي عاشتها الولايات المتحدة، أقوى دولة في العالم، خلال فترة حكم الرئيس السابق جو بايدن الذي غادر البيت الأبيض مرغمًا بعمر الـ82 عامًا بعدما رفض حزبه، الحزب الديمقراطي، استمراره بالترشح لولاية ثانية بسبب وضعه الصحي، وما رافق ذلك من حملات استهزاء بقدراته الصحية والعقلية. إلا ان المفارقة أن خصمه الذي فاز بالانتخابات الرئاسية دونالد ترامب يبلغ من العمر 79 عامًا، أي انه سيغادر البيت الأبيض بعمر الثالثة والثمانين، من دون أن نغفل إعلانه انه يفكر بالترشح لولاية ثانية.
في لبنان أيضًا يبدو الأمر مشابهًا إذا لم يكن أسوأ، بعدما تبيّن بالوقائع أن معظم السياسيين المسؤولين عن وصول البلد الى جهنّم قد تجاوزوا الثمانين، فباتوا غير آبهين بوصول البلد الى ما وصل إليه، طالما أنهم لا يحسبون حسابًا لجهنّم الحقيقية التي تنتظرهم على أحرّ من الجمر.
لماذا هذا الإصرار من البشرية على مخالفة إرادة الخالق في خلقه؟ لماذا هذا الإصرار على التمسك بالمواقع والكراسي حتى الرمق الأخير، ما يؤدي الى حرمان الأجيال الجديدة من حقها في تبوؤ المناصب العليا وتقرير مصيرها وفقًا لإرادتها؟ لماذا حدّد المشترع في كل أصقاع الأرض سنًا يتراوح بين الستين والستة والستين عامًا، وفقًا لكل بلد، لإحالة جميع الموظفين من عسكريين ومدنيين في القطاعين العام والخاص الى التقاعد، فيما لا ينطبق الأمر نفسه على رجال الدين ورجالات السياسة؟ وهل أن هذه الفئة الممسكة بمصائر الشعوب في الدنيا والآخرة تملك من المؤهلات والقدرات الصحية والذهنية والعقلية أكثر من الفئة الأخرى، أم أنها تفعل ما تشاء لأنها هي من تضع القوانين فتحلّل بالتالي لنفسها ما تحرّمه على غيرها؟
إنها أسئلة مشروعة تطرحها الأجيال الشابة بخفَر، لأنها لم تجرؤ بعد على مواجهة من بيدهم السلطتين الدينية والدنيوية. إلا ان الوقت حان لوضع حد لهذه المآسي التي تبلغ حد المعاصي، لأنه لم يعد جائزًا لمن عايش الحرب العالمية الثانية أن يكون صاحب سلطة وقرار في عصر الذكاء الاصطناعي ومشتقاته.