
المبيدات الزراعية سموم قاتلة.. و”الزراعة” تخطط لتنظيمها
والجزء الآخر من تلك المواد يدخل إلى السوق اللبناني بأساليب غير شرعية، فتغرق بها الأسواق، إلى درجة أنها تُعرض في بعض المتاجر الصغيرة ومحالّ البقالة وبيع الخردوات بأسعار مغرية تجذب المزارعين، لا سيما أولئك الذين لا يملكون القدرة على تحمل تكلفة استخدام المبيدات الصديقة للبيئة، والتي يجب شراؤها واستخدامها بشكل دوري ومنتظم، فيما لا يملك بعضهم الآخر المعرفة الكافية لاختيار المواد المناسبة، رغم توافر القدرة الشرائية لديهم. وإلى جانب الفوضى التي تعاني منها السوق اللبنانية، تبرز مشكلة أخرى هي افتقار جزء كبير من المزارعين للمعرفة الكافية بأنواع المبيدات وبكيفية استخدامها بالشكل المناسب، سواءً كانت مهرّبة أو المسجلة قانونًا.
مخاطر المبيدات
تختلف درجات السمّية في المبيدات الزراعية؛ بعضها يتفكك خلال أيام قليلة، وهو أقل خطورة نسبيًا، وبعضها يُرشّ مرةً واحدة وقد لا يتفكك لسنوات. يلجأ العديد من المزارعين اللبنانيين إلى شراء المبيدات الزراعية والأسمدة المهربة والممنوعة دوليًا بهدف خفض تكاليف إنتاجهم، نظرًا لأن تلك المبيدات شديدة السمّية ويستمر مفعولها لأشهر طويلة، وأحيانًا لسنوات، كما أن ثمنها أرخص من نظيراتها القانونية. إلا أن المشكلة لا تقتصر على لجوء المزارعين إلى شراء تلك المبيدات، بل في توافرها في الأسواق اللبنانية وبيعها بأسعار مغرية، مما يسهل الوصول إليها رغم المخاطر التي تشكلها على صحة المزارع وعائلته، وعلى المستهلكين بشكل عام، إضافة إلى الأضرار التي يمكن أن تصيب التربة والمياه في حالات الاستخدام المفرط.
فضلًا عن ذلك، يستخدم بعض المزارعين أنواعاً عديدة من المبيدات في نفس الموسم دون أدنى معرفة في التمييز بينها، ظنًا منهم أنهم يقومون بحماية المحصول. وبدلًا من ذلك، فإنهم يسببون أضرارًا بيئية وبيولوجية جسيمة، ويساهمون في تدمير التنوع الحيوي من خلال القضاء على جميع الكائنات الحية الضارة والنافعة في الوقت ذاته، مما يجبرهم على استخدام المزيد من المبيدات وهلمّ جرًا.
وقد حدّد قانون سلامة الغذاء رقم 35 موجبات المزارع ووزارة الزراعة بوضوح، حيث تشير المادة الثامنة إلى وجوب تزويد المزارع وزارة الزراعة، بناءً على طلبها، بالمعلومات المتعلقة بالأسمدة والمبيدات والأدوات البيطرية والأعلاف التي استعملها خلال ممارسته لنشاطه الزراعي.
من يتحمّل مسؤولية فوضى المبيدات
أشار تقرير سابق لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، في حزيران 2022، إلى أن لبنان من البلدان التي سجّلت فيها أحد أعلى معدلات استعمال الأسمدة (331 كغ/هكتار) ومبيدات الآفات (7 كغ/هكتار) للهكتار الواحد في العالم. ويذكر التقرير أن المزارعين لا يلتزمون بتعليمات الاستخدام لجهة الجرعات الموصى بها والتواتر، والتي حددتها وزارة الزراعة عبر ملصقات توضع على عبوات المبيدات المسجلة بشكل قانوني. وغالبًا ما يقوم المزارعون بمضاعفة المعدل الموصى به ظنًا منهم أنهم بذلك قد يزيدون من فعالية المبيد. كما يذكر أن مندوبي المبيعات والتجار ينصحون المزارعين برشّ أكثر من مبيدٍ واحد من الفئة ذاتها أو ذات طريقة تأثير مماثلة، ما يؤدي إلى استخدام مفرط وغير فعال، ويتسبب بزيادة تركيز المبيدات في التربة والماء والهواء، وارتفاع مستويات متبقيات المبيدات في الفواكه والخضار، ما يثير مخاوف خطيرة على الصحة العامة.
توصيات شبكة “سيادة”
في هذا السياق، أشار منسق شبكة “سيادة” علي أزناك في حديث إلى “المدن” (تعنى بالشأن البيئي وتُعرف بإطار موحّد للنضال من أجل السيادة الغذائية) “إلى ضرورة قيام الحكومات في المنطقة العربية، ومن ضمنها الحكومة اللبنانية، بدورٍ أكبر في حماية صحة العاملين والعاملات في القطاع الزراعي من الأخطار الناجمة عن الاستخدام المكثف للمبيدات الزراعية. إذ يعتمد مستوى الخطورة على طريقة ومدة التعرض لهذه المبيدات، بالإضافة إلى نوعها وتركيبتها الكيميائية وحالتها الفيزيائية.
وفيما يتعلق بالمبيدات المهرّبة، شدّد أزناك على ضرورة أن تتخذ الحكومة اللبنانية أيضًا خطوات فعالة لمكافحة استخدامها، وذلك “من خلال تخصيص لجان مراقبة صارمة تضمن عدم تسرب هذه المواد إلى الأسواق، وفرض رقابة مشددة على الشركات المتاجرة بالمبيدات، وتحميلها مسؤولية أي خطر يهدد صحة العمال والمستهلكين. كما يتعين تحميل المستثمرين الكبار تكاليف إعدام النفايات الناتجة عن المبيدات في أماكن مخصصة لذلك”.
بالإضافة إلى كل ذلك، أشار أزناك، إلى أنه “من الضروري منع استخدام المبيدات داخل البيوت البلاستيكية أثناء وجود العمال الزراعيين، مع احترام الفترات اللازمة لتلاشي مفعول هذه المواد قبل دخولهم إلى بيئات العمل”. وهنا، تظهر “أهمية الكشف عن طبيعة الأمراض المهنية التي تسببها المبيدات، خاصة في مرحلة التقاعد، حيث قد تتأخر ظهور آثارها على الصحة”. كما أوضح أنه يجب أن تكون هناك شفافية في “الكشف عن التركيبة الكيميائية للمبيدات الزراعية، ويستحسن فرض ضرائب متزايدة على مستعملي هذه المبيدات”.
استيراد المبيدات البيولوجية والصديقة للبيئة
بعض ما أشار إليه أزناك، يتماشى مع تطلعات وزير الزراعة نزار هاني، الذي أكّد في تصريح أدلى به لـ”المدن” أن “قضية المبيدات الزراعية هي على رأس أولويات الوزارة، وهي جزء من برامج الإرشاد الزراعي التي تعمل عليه ضمن برنامج الإرشاد الوطني الزراعي. فلا يمكن تحقيق الاستدامة في الزراعة اللبنانية دون معالجة قضية المبيدات الزراعية بشكل صحيح”. وقد نشرت وزارة الزراعة بيانات وإرشادات توجيهية للمزارعين حول كيفية استخدام المبيدات الزراعية، كان آخرها يوم الخميس في 17 نيسان/ أبريل 2025 على موقع الوزارة تحت عنوان “نشرة إرشادية للمزارعين: إرشادات ضرورية حول شراء وتداول واستخدام المبيدات الزراعية”. وأشار الوزير هاني إلى أن الوزارة مستمرة في إصدار النشرات ومتابعة هذه القضية، إضافة إلى قيامها بتنظيم عدة ورش عمل تدريبية متخصصة.
أما فيما يتعلق بقضية تهريب المبيدات الزراعية السامة، فقال الوزير هاني إن الوزارة تعمل بشكل جاد “على مكافحة المبيدات المهرّبة، وجميع الأماكن غير الشرعية التي تُباع فيها”. وأضاف: “حاليًا نقوم بدراسة إعادة تنظيم سوق المبيدات، وقد قمنا بتجديد اللجنة العلمية المختصة بمراقبة المبيدات، والمعنية بتحديد المبيدات الزراعية المسموح بإدخالها إلى لبنان وتنظيمها”. كما أكّد أن أحد الأهداف الرئيسية للوزارة في المرحلة المقبلة هو “تشجيع استيراد المبيدات البيولوجية والصديقة للبيئة”.
شكّلت بعض هذه الخطوات مطالب أساسية، ربما تكون قد دخلت أخيرًا في طور التحقق بعد سنوات من توجيهها من قبل رئيس جمعية المستهلك في لبنان، زهير برّو، إلى وزير الزراعة الأسبق غازي زعيتر في عام 2018. وذلك إلى جانب مطالب أخرى تتعلق بتعيين ممثلين عن المستهلكين وأصحاب الاختصاص داخل لجنة الأدوية الزراعية، وتحديد تمثيل الشركات المستوردة للمبيدات الزراعية بعضو واحد، وإقرار مشروع قانون تنظيم بيع الأدوية والأسمدة الزراعية. وقد أشار برّو في تصريح صحافي في آب 2023 إلى ضرورة أن تكون هناك مرجعية واحدة فيما يخص استيراد المبيدات الزراعية، هي “اللجنة الوطنية لسلامة الغذاء”، ودعا إلى منع التضارب في صلاحيات الوزارات الثمانية المعنية في مراقبة ملف سلامة الغذاء.