أورتاغوس: مرونة شكلية لها أسبابها

أورتاغوس: مرونة شكلية لها أسبابها

الكاتب: جوني منيّر | المصدر: الجمهورية
7 نيسان 2025

سيسيل كثيرٌ من الحبر للحديث عن الزيارة الثانية لمساعدة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس لبيروت. البعض يروّج عن إيجابية خالفت التوقّعات، والبعض الآخر أصرّ على رسائل سلبية عدة حملتها الموفدة الأميركية المثيرة للجدل. إلّا أنّ المهمّة الحقيقية لجولتها الجديدة حضرت في خلواتها التي عقدتها مع الرؤساء الثلاثة، في وقت بدا أنّ اللقاءات الموسّعة ساد فيها كلام بروتوكولي عام أكثر منه عملي وفعلي.

وفي معرض تقييمها لمهمّة أورتاغوس الجديدة، اكتفت أوساط ديبلوماسية بالقول إنّها لتذكير المسؤولين اللبنانيين بأنّ واشنطن تتابع من قرب التزام لبنان الرسمي بتطبيق التفاهمات التي كانت واكبت قرار وقف إطلاق النار، والالتزام بكل مندرجات القرار 1701، والأهم حضّ المسؤولين اللبنانيين على عدم التباطؤ، وأنّ واشنطن جاهزة للمساعدة في حال ظهور عقبات. في الواقع قد يكون التوصيف الأكثر واقعية لجولة أورتاغوس هو أنّها جاءت مرنة في الأسلوب فقط، أما المضمون فهو تكرار لما سبق، مع إضافة ملف احتل الإهتمام الأول، وهو المتعلق بالإصلاحات. ومن هنا يصح الإعتبار أنّ المهمّة الأبرز للجولة الثانية للموفدة الأميركية تتعلق بالإصلاحات إلى جانب الملفات الأمنية المعروفة مثل استكمال نزع سلاح «حزب الله» والحدود البرية بشقيها الإسرائيلي والسوري إضافة إلى الحدود الجوية.

أورتاغوس التي اشتكت من المعالجة البطيئة للسلطة اللبنانية، أشارت إلى أنّ على لبنان أن يكون قد جهّز كل ملفاته الإصلاحية عند بدء اجتماعاته مع صندوق النقد الدولي. وثمة بندان أساسيان في هذا الإطار: الأول وهو المتعلق برفع السرّية المصرفية مع مفعول رجعي لعشر سنوات، وليس كما اقترح لبنان لثلاث سنوات فقط. فالعمليات المثيرة والغامضة والتي تتضمن قطباً أمنية وسياسية، والتي يجب كشفها، إنما تعود خصوصاً للحقبة الممتدة بين عامي 2015 و2019. والثاني، وهو المتعلق بإعادة هيكلة قطاع المصارف وتنظيمه وفق أسس علمية واضحة ومتناغمة مع النظام المصرفي العالمي، لأنّ لبنان بات يتعامل منذ سنوات عدة وفق «الكاش»، مع ما يحمل ذلك من مخاطر كبيرة لناحية جعله ملاذاً ممتازاً لتبييض الأموال والتحايل والإلتفاف على المصفاة الرقابية المالية الدولية.

وإضافة الى ما تقدّم، فهنالك بنود إضافية ملحّة تدخل في «دفتر شروط» المطالب الإصلاحية، وهي المتعلقة بإصلاح القضاء، وضبط المعابر الحدودية والجمارك، وتطهير وزارة المال.

لكن الأسلوب الهادئ والمرن الذي ظهرت فيه أورتاغوس هذه المرّة له أسبابه الأخرى. ذلك أنّ المسؤولة الأميركية مثلها مثل عدد من مسؤولي إدارة ترامب، دخلت مجال الديبلوماسية والمفاوضات من دون خبرة مسبقة، وهو ما جعلها ترتكب أخطاء عدة خلال جولتها الأولى، كمثل تصريحها الفاضح من قصر بعبدا، وهو ما دفع رئيس الجمهورية إلى إصدار بيان توضيحي لاحقاً. وبعد عودتها من زيارتها الأولى تمّ إفهامها فداحة الأخطاء التي ارتكبتها. كما تمّ لفت انتباهها إلى وجوب مراعاة جوانب عدة لدى زيارتها مختلف المسؤولين في لبنان. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير عدم إدلاء أورتاغوس بأي تصريح بعد انتهاء لقاءاتها. وقيل إنّه تمّ تعديل البرنامج المرسوم، وبالتالي تجاوز أي كلام لها كان من المفترض أن تدلي به بعد كل لقاء من لقاءاتها الثلاثة مع الرؤساء، تجنّباً لحصول أي خطأ في التعبير (على رغم من أنّه كان من المفروض أن تدلي بتصريح مكتوب كل مرّة)، وتحاشياً لأي حوار قد يحصل مع المراسلين والصحافيين. وفي أبرز تأكيد لذلك كانت الحركة التي قامت بها في خلال لقائها بالرئيس نبيه بري، حيث عملت على إخفاء قلادة نجمة داوود. وهذا ما يعطي الإستنتاج الواضح حول الإحاطة التي أُعطيت لها بعد قدومها الأول العاصف.

ولكن لا يجب إغفال وجود دافع آخر صبّ في مصلحة اعتماد أسلوب مرن ومتحفّظ. فشدّ الحبال بين واشنطن وطهران كان بلغ درجات عالية ووصل إلى مرحلة خطرة. وهذا التخاطب أو التفاوض بالنار كان قائماً عبر ساحات النفوذ بدءاً من اليمن، حيث حشدت إدارة ترامب قوة نارية جوية هي الأضخم منذ غزو العراق. والبرنامج الناري الأميركي في اليمن تضمن ضربات جدّية ووفق حركة تصاعدية. وكذلك عاد التخاطب الناري في غزة، وقبل ذلك سُجّلت أحداث غامضة عند الساحل السوري. أما في لبنان فظهرت الصواريخ «المجهولة» على رغم من أنّه تمّ وضعها بعناية في أماكن محدّدة بدقّة. وجاء الردّ دموياً في الساحل السوري، وكبيراً في لبنان حيث تمّ استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت تماماً كما كان يحصل في عزّ الحرب.

إلاّ أنّ شيئاً ما طرأ وجعل طهران تلين وتعدل في حساباتها وتذهب إلى مفاوضات غير مباشرة مع واشنطن ستتحول بعدها مفاوضات مباشرة، حسب ما تؤكّد أوساط ديبلوماسية أميركية مطلعة. وقيل إنّ النقاش العاصف الذي دار داخل أروقة السلطة الإيرانية وحتى داخل الفريق المحافظ نفسه تمحور حول رأيين: الأول ويتألف من غلاة المحافظين والذين يتمسكون بالإستمرار في سلوك المواجهة وعدم الإستكانة، لأنّ الذهاب إلى مفاوضات وفق المعطيات الحالية سيعني الإقرار بالهزيمة وبانكفاء طهران عن الساحة الإقليمية وعودتها إلى الداخل الإيراني، وهو ما سيرفع مخاطر حصول تفسخات داخلية وتهديد الإستقرار الداخلي. اما الفريق الثاني فاعتبر أنّ سقوط سوريا وخسارة حركة «حماس» والضربة القوية التي تلقّاها «حزب الله» تستوجب النظر بواقعية إلى الأمور. فإعادة بناء التركيبة التي كانت قائمة، والتي كان «حزب الله» يتولّى إدارة قسم كبير منها، يبدو صعباً جداً بعد قطع خطوط الإمداد البري عبر سوريا. ويتابع هؤلاء، أنّه على فرض تمّ تأمين خطوط إمداد بديلة فإنّ إعادة بناء الجسم والقوة العسكرية لـ«حزب الله» ستحتاج إلى سنوات عدة وأموال كثيرة، أي أنّه يستحيل توظيف ذلك في المرحلة الضاغطة الحالية. كما أنّ الإستمرار في ترك الساحة اليمنية مفتوحة أمام الضربات الجوية الأميركية سيدفع إلى خسارة كثير من عوامل القوة العسكرية الحوثية. وبالتالي يعتقد أصحاب هذا الرأي، أنّ الحكمة تقضي بالذهاب إلى المفاوضات لوقف الهجمة الأميركية والإسرائيلية الحاصلة، وبالتالي إنقاذ ما تبقّى من القوة الموجودة، خصوصاً عند الحوثيين و»حزب الله»، واعتماد الحلول المرنة والتي لطالما اشتهرت بها السياسة الإيرانية، وبالتالي الرهان على الوقت وانتظار ظروف أخرى مستقبلاً قد تسمح بإعادة بناء ما تهدّم، بدل المخاطرة بجعل الساحة الإيرانية أيضاً عرضةً للهجمات الجوية الأميركية والإسرائيلية العنيفة.

ويبدو أنّ رؤية الفريق الثاني هي التي ربحت، وهو ما تمّت ترجمته بالردّ الإيراني على رسالة ترامب والتي جاءت عبر سلطنة عمان البلد الذي تثق إيران بوساطته. وبوشر التحضير لجلسة مفاوضات أولى غير مباشرة، على أن تليها لاحقاً المفاوضات المباشرة. وعلّق ترامب على ذلك، بأنّ طهران تشعر بالضعف لذلك أذعنت لخيار التفاوض.

لكن النظام الديني القائم في إيران يهتم كثيراً بالمحافظة على الشكل ومظاهر الإحترام، شأنه شأن عدد من أنظمة الحكم المشابهة. لذلك فتح باب التفاوض موحياً باستعداده للإنخراط في مناقشة مرنة لملفي النووي والإستقرار الإقليمي أو ما يُعرف بأذرع إيران في المنطقة، بشرط اعتماد السرّية الكاملة. كما أنّها طالبت بتخفيف لغة التهديد لكي لا تبدو في صورة الطرف الضعيف. وفي الوقت نفسه رفضت مسبقاً البحث في ملف الصواريخ والمسيّرات: «ألا يكفي أنّه لم يعد خطر تركيب رؤوس نووية للصواريخ موجوداً بعد أن تتمّ معالجة الملف النووي؟». ذلك أنّ طهران تتمسك بأنّ قدراتها الدفاعية محصورة بقدرتها الصاروخية التقليدية في ظل تآكل قوتها الحربية الجوية وتلك البرية التقليدية. وقد تكون هذه النقطة تشكّل خلافاً جدّياً بين الطرفين. ويومها جاء الكلام الذي نقلته صحيفة «التلغراف» البريطانية عن مسؤول إيراني رفيع بوقف كل أشكال الدعم العسكري للحوثيين، بمثابة رسالة إيجابية لإدارة ترامب. والمبدأ الذي يطبّق على الحوثيين من المنطقي أن يسري على «حزب الله».

من هنا قد تكون هذه الأجواء المستجدة قد ساهمت في إضفاء ليونة شكلية لأورتاغوس، على رغم من أنّها جاءت بعد تخاطب ناري شهدته الساحة اللبنانية. لكن التمسك بالمضمون الحازم يؤشر أيضاً إلى أنّ المعادلة الجديدة التي قامت عليها السلطة اللبنانية غير قابلة للتفاوض أو المساومة. وهنالك ما هو ملفت في جولتها الجديدة. ففي حديثها عن نزع سلاح «حزب الله»، وأنّ المهلة الزمنية غير مفتوحة، أشارت إلى أنّ نزع السلاح يجب أن يشمل كل مجموعة خارج إطار السلطة الشرعية، بما في ذلك المخيمات الفلسطينية ومجموعات أخرى كانت استعرضت سلاحها خلال المرحلة الماضية مثل الجماعات الإسلامية.

صحيحٌ أنّ ترامب يتمسك بمفاوضات سريعة مع إيران، لكنه في الوقت نفسه يستعد لمرحلة طويلة من استهداف قدرات الحوثيين قيل إنّها قد تمتد إلى ستة أشهر. وهنا بالضبط يمكن إدراج ما تحدثت عنه أورتاغوس حول أنّ المهلة الزمنية غير مفتوحة، أي أنّ انتظار التطورات المتسارعة في المنطقة قد لا يكون في مصلحة لبنان. بمعنى أنّ واشنطن تدعم الإنطلاق في ترتيب البرنامج المتفق عليه ولو وفق خطوات مدروسة بعناية. إلّا أنّها لا توافق الرأي حول وجود مخاطر اندلاع حرب أهلية، وهذا ما استنتجته من خلال الأجوبة التي سمعتها رداً على أسئلتها التي طرحتها في هذا المضمار.