بيروت بين الأنقاض… هل تُبنى من جديد أم تُباع في المزاد؟

بيروت بين الأنقاض… هل تُبنى من جديد أم تُباع في المزاد؟

الكاتب: شربل صفير | المصدر: نداء الوطن
1 نيسان 2025

منذ الرابع من آب 2020، بدأت بيروت تنزف، ولكنه ليس نزيفاً عادياً، بل بمثابة جرح عميق اخترق قلب المدينة التي عاشت أكثر من حرب ومجزرة. ما حصل في ذلك اليوم لم يكن مجرّد انفجار، بل كان ضربة غادرة، لطمة حارقة لطالما انتظرها الفاسدون والمستفيدون من خراب هذه الأرض. بيروت اليوم ليست المدينة التي عرفناها، ولا الشوارع التي تجمّعت فيها الذكريات. هي الآن جثة حيّة، تتنفّس الخراب وتسير فوق ركام ماضيها، وكلّ زاوية فيها تحكي قصّة سرقة جديدة، ووعود فارغة، وعدالة مغيّبة.

إعادة الإعمار: وعدٌ بلا معنى؟

في شوارع الجميزة، مار مخايل، والأشرفية، حيث كان لكلّ حجرٍ حكاية وكل مبنى روح، لا تزال الأطلال تروي قصة فشل كبير. لم يكن انفجار المرفأ مجرّد حدث عابر، بل كان إعلاناً عن موت بيروت، بموافقة من السلطة، وبيد من يفترض أن يحميها. وعود “إعادة الإعمار” التي انتشرت بسرعة كما النار في الهشيم، تبخّرت تماماً مع دخان الانفجار، ليحلّ محلها سماسرة العقارات، ليحوّلوا بيروت إلى سلعة تُباع بأعلى سعر. أين هي بيروت التي عرفناها؟ في مكانٍ ما بين ركامها، يختبئ مشروع تدمير هويتها بالكامل، لصالح من لا يعرفونها ولا يهتمون لها.

إن كانت بيروت تُباع اليوم، فأين ذهب أصحابها؟ أين اللبنانيون الذين حافظوا على تراثهم وأصالتهم؟ أصبحت المدينة، التي كانت يوماً شريان الحياة للمنطقة، مجرد بقايا لمن يشتري ويبيع، وركامٍ للذاكرة الجماعية التي تبخّرت. أين العدالة؟ هل ستكون هذه إعادة الإعمار على حساب الشعب؟ هل سنشهد بيروت جديدة، مفصولة عن تاريخها، وهيكلاً فارغاً لا يشبه المدينة التي كانت؟ أم أننا أمام عملية تهجير ناعمة، تديرها يد خفية، تسعى لسرقة هوية بيروت نفسها؟

صوت من داخل الركام

“كل شيء هنا كان حياً”، يقول طارق، صاحب محل تجاري في منطقة الجميزة لـ “نداء الوطن”، وهو يقف بين الأنقاض التي كانت يوماً منطقة حيوية. “المحل كان يعج بالزبائن، وكان هذا المكان يعني لي أكثر من مصدر رزق. اليوم، نحن مجرد ضحايا لسماسرة العقارات، التي ترى في مدينتنا مجرد أرض للبيع. الترميم؟ لا، إنها عملية استبدال. البيوت تُباع كما لو كانت سلعة، والمنازل التي لطالما سكنّاها تتحول إلى أبراج فاخرة لطبقة غريبة عن بيروت، لا تعرف ما تعنيه هذه الشوارع ولا هذه المحلات”. ينظر طارق بحسرة إلى الأنقاض، “بيروت في طريقها لتصبح مدينة بلا ذاكرة.”

أما ماري، إحدى سكان الأشرفية، فتقول بمرارة لـ”نداء الوطن”: “لقد فقدنا كل شيء. لم نعد نعرف مكاننا في هذه المدينة. المباني التي كانت تزين حيّنا أصبحت خرائب، والناس الذين كانوا يملؤون الشوارع ذهبوا مع الرياح. نحن هنا في الأشرفية، تحت ركام من الفساد. وعود السلطة بإعادة الإعمار لا تتجاوز حدود الدعاية السياسية، بينما تُسلب منا مدينتنا. كأنهم يحاولون محو هويتنا وتاريخنا، وأنه لا مكان للبقية منا في بيروت هذه. إذا كان هذا هو “إعادة الإعمار”، فلا أعتقد أن المدينة ستتعافى أبدا.”

بين الموت والانتفاضة

لكن بيروت لا تموت ببساطة. بيروت التي نشأنا فيها، المدينة التي أطلقت الفن في شوارعها، والحرية في سمائها، والموسيقى في مقاهيها، ليست مجرد حجارة وبنايات تضيف ماري. هي روح، هي تاريخ، هي حلم لم ينتهِ بعد. ورغم كل الخراب، ورغم إصرار القتلة على دفنها، لا تزال هناك شعلات صغيرة من المقاومة تشتعل في زواياها. رغم كل شيء، المقاهي الصغيرة تفتح أبوابها، والفنانون يواجهون الدمار بريشاتهم وألوانهم، والموسيقيون يعزفون لحن الأمل فوق أنقاض الصمت. بيروت التي نحبها، لا تقبل الموت بسهولة.

مدينة تُقتل من الداخل!

على الرغم من الخراب، ورغم دماء الشهداء التي لم تجف بعد، ورغم القهر الذي يلاحق كل عائلة فقدت عزيزاً، هناك من يعمّق الجرح أكثر. في دولةٍ لا تعرف العدالة، أصبحت الجرائم تُرتكب على مرأى ومسمع الجميع، والمسؤولون يسرحون ويمرحون في قصورهم، يتلاعبون بالقوانين، ويتبادلون الغمزات والابتسامات في الظلام. كيف لبيروت أن تعود إلى الحياة وسط هذه الأحقاد؟

الخيار اليوم: إما الفقدان أو الانتفاضة

بيروت اليوم أمام مفترق طرق، إما أن تتحول إلى مدينة تائهة، فقدت ملامحها وذكرياتها، أو أنها ستقف وتنتفض من تحت الركام. لن تعود كما كانت إلا إذا حصلت على العدالة التي سرقت منها. لن تكون بيروت التي نعرفها إلا إذا استردت هويتها، وأزالت ركام الفساد الذي يعشش في قلبها. لم يعد وقت الكلام الفارغ، لم يعد وقت الوعود الزائفة. بيروت اليوم بحاجة إلى انتفاضة جديدة، انتفاضة العدالة، انتفاضة الذاكرة، انتفاضة لن تترك أحداً من دون حساب.

إن كانت بيروت ستعود، فسيكون ذلك بيد شعبها، الذي مهما كانت الجراح عميقة، لا يزال يملك الأمل في أن يعيد بناء ما دمّره الفساد والظلم. بيروت لن تموت، لكنها أيضاً لن تعود كما كانت ما لم يقم شعبها بثورة جديدة تقتلع كل من حاول أن يحرف مسارها ويطمس تاريخها.