
إيران تحتجّ بالصّواريخ على اجتماعَي جدّة وباريس؟
اختبر لبنان أحد فصول لعبة السلطة، بتعيين الحاكم الجديد للمصرف المركزي كريم سعيد، فيما شهدت جدّة وباريس محطّتين مفصليّتين لمستقبله.
بقدر أهمّية تسمية الحاكم مع تهيّؤ الحكومة لوضع خطّة اقتصادية ماليّة تنتشل لبنان من الانهيار، تشكّل علاقته بسوريا عاملاً رئيساً لتعافيه. فسوريا كانت مصدراً لمشاكله منذ سبعينيات القرن الماضي حين وضع حكم الأسد الأب والابن يده على القرار فيه. ومنها تسلّل إليه نفوذ إيران التي سخّرت اقتصاده الضعيف وأمنه ومؤسّساته لخدمة النظام المستبدّ، فازدادت مساحة الحدود السائبة بين البلدين. ومن لبنان استخدمت طهران سلاح “الحزب” ضدّ الثورة السورية فأطالت معاناة السوريين واللبنانيين معاً. وتسعى الآن إلى توظيف فلول النظام وبقايا الميليشيات الموالية لها لتقويض الحكم الجديد.
قد يكون على اللبنانيين ونخبهم السياسية الالتفات إلى ما يُرسم للشرق الأوسط، لمواكبة الموقع الذي يراد للبلد الصغير أن يحلّ فيه. أحد العناصر الأساسية للخريطة الإقليمية المقبلة إعادة إيران إلى داخل حدودها والحؤول دون تحريكها لأخطبوط أدواتها العابرة للخرائط.
من اليمن إلى سوريا ولبنان
الضربات النوعية التي يتلقّاها الحوثيون في اليمن هي أحد فصول إعادة تشكيل الشرق الأوسط، بعد زلزال سوريا وإضعاف “الحزب” و”حماس”.
شعور طهران بمدى إصرار الدولة العميقة في أميركا على إعادتها دولة “طبيعية” بلا أذرع، هو الذي يدفع بها إلى التأكيد أنّ “المقاومة مستمرّة”، وهو الشعار الذي يردّده المرشد علي خامنئي، ووكيله الشرعي الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم. وبذلك تسابق القيادة الإيرانية الضغوط لاستكمال تشذيب نفوذها عبر طرح نزع سلاح “الحزب” في لبنان. إذ إنّ اتّفاق 27 تشرين الثاني لوقف النار نصّ على ذلك. وإحدى وسائل “مقاومة” هذه الضغوط إطلاق الصواريخ “اللقيطة” من جنوب لبنان اتّجاه إسرائيل، كما حصل أمس للمرّة الثانية خلال أقلّ من أسبوع. فحكّام طهران لا يأبهون لكلفة الرسائل التي يبعثون بها لأميركا وإسرائيل على اليمن وعلى لبنان، وللذرائع التي توفّرها للوحشية الإسرائيلية. وهو ما حصل أمس في الضاحية الجنوبية بعد الردّ الإسرائيلي على إطلاق صاروخين في الجنوب.
اتّفاق الحدود السّوريّة اللّبنانيّة في جدّة
في كلّ حال، ليست مسألة عابرة أو وساطة تقليدية أن تحتضن المملكة العربية السعودية التنسيق اللبناني السوري في شأن أمن الحدود بينهما. ومع أنّ لدى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الكثير لمناقشته مع الرئيس جوزف عون، فإنّه ابتدع فكرة الاجتماع مع الرئيسين القبرصي واليوناني، وضمّ إليه الرئيس أحمد الشرع عن بعد. ولهذا خلفيّة تتعلّق بأمن البحر الأبيض المتوسّط، وبالاستثمارات النفطية التي تحتاج إلى ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وسوريا وبينه وبين قبرص.
كان لافتاً الإعلان من جدّة عن اتّفاق تاريخي بين وزيرَي الدفاع السوري مرهف أبو قصرة واللبناني ميشال منسّى برعاية نظيرهما السعودي الأمير خالد بن سلمان بن عبدالعزيز على الأهمّية الاستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين وعلى تشكيل لجان قانونية ومتخصّصة في المواضيع العالقة.
وكان من الطبيعي أن يفهم المراقبون من أنّ إطلاق صاروخين من الجنوب ردٌّ على اجتماع جدّة، وعلى زيارة الرئيس عون لباريس.
الانخراط الأميركيّ… والحكومة السّوريّة الجديدة
رافق الرعاية السعودية لمعالجة المشاكل المزمنة بين البلدين، التي منع النفوذ الإيراني فيهما في السنوات السابقة دون التوافق على حلّها، دعمٌ أميركيّ لدور الرياض. لقيت ارتياحاً من إدارة دونالد نرامب مبادرةُ الرياض لاحتضان سوريا الجديدة، ثمّ اندفاعها نحو رعاية التغييرات اللبنانية بانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة. ويلبّي اتّفاق الحدود في جدّة أهداف التوافق الأميركي – الأوروبي – العربي على إبعاد طهران عن سوريا ولبنان، ومحاصرتها سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً.
تجزم الأوساط في سوريا التي ترصد اتّجاهات الموقف الأميركي في بلاد الشام، أنّ إدارة ترامب منخرطة بعمق مع الرياض في رعاية العلاقة اللبنانية-السورية. تنطلق الدبلوماسية الأميركية من إعلان الشرع بعد أيّام على دخول قوّاته دمشق في كانون الأوّل الماضي: “خلّصنا الدول المعنية من إيران في سوريا”. وبموازاة الشروط التي أبلغتها واشنطن لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في بروكسل لرفع العقوبات، كما نشرها “أساس” أمس، تتوقّع واشنطن تجاوب الشرع معها.
في معلومات الأوساط السورية أنّ إعلان الحكومة السورية الجديدة خلال الساعات المقبلة قد يحدث صدمة إيجابية تمهّد لرفع تدريجي للعقوبات. تتوقّع هذه الأوساط أن تضمّ وزراء من الأطياف كافّة وشخصيّات معتدلة، بحيث يستجيب الشرع لمطلب أميركا وأوروبا إبعاد المتطرّفين الإسلاميين الذين تخشيان من انتمائهم السابق إلى تنظيم “القاعدة”، وللحرص على تمثيل الأقلّيات والمرأة.
وقائع عن الدّور الأميركيّ في سوريا
تضيف هذه الأوساط تأكيدها أنّ الرياض تواكب أيضاً الجهود الأميركية التي لعبت دوراً حاسماً في جملة وقائع:
- رفض حكّام دمشق عودة “حماس” إلى دمشق، والأخيرة تفهّمت ذلك. وهو أحد الشروط الأميركية والعربية.
- كانت واشنطن خلف تشجيع الرئيس الشرع وقائد قوّات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي على الاتّفاق الذي أعلناه في 10 آذار الجاري، والذي شكّل تحوّلاً تاريخياً بالاعتراف بحقوق المكوّن الكردي في سوريا ودمج “قسد” في القوّات المسلّحة السوريّة.
- أدّت الاتّصالات الأميركية مع إسرائيل وتركيا إلى خفض التوتّر بين الدولتين، منعاً لحصول صدام بينهما على الأرض السورية. وما يهمّ إدارة ترامب ألّا تستفيد طهران من أيّ اشتباك إسرائيلي تركي قبل أيّ جولة محتملة مع إيران.
- تقول مصادر معنيّة بتسريع وتيرة المساعدات لسوريا إنّ الإدارة الأميركية بذلت جهداً إيجابياً في هذا الصدد. ومن الأمثلة أنّها شجّعت قطر على تقديم هبات من الغاز لرفع التغذية بالكهرباء في سوريا.
- إضافة إلى الانفتاح الفرنسي الذي يعبّر عن تقاطع مع إدارة ترامب، فيما تتهيّأ ألمانيا لتقديم المساعدة الاقتصادية لدمشق.