هكذا يلتف “الحزب” على تسليم السلاح ومواجهة أزمته المالية

هكذا يلتف “الحزب” على تسليم السلاح ومواجهة أزمته المالية

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
28 آذار 2025

كثيراً ما اعتمد “حزب الله” سياسة الخداع الدبلوماسي و”التقية” كنهج أساس في مواجهة ضغوط المجتمع الدولي، فالحزب يتقن لعبة كسب الوقت، مراهناً على تراجع الضغوط الإقليمية والدولية تدريجاً مع مرور الوقت، مما يتيح له التملص من تنفيذ أي اتفاق أو قرار لا يصب في مصلحته، وتكاد تكون تجربة الالتفاف على تنفيذ القرار الدولي 1701 عقب نهاية حرب يوليو (تموز) 2006 نموذجاً واضحاً على وضع بنود القرار في أدراج النسيان طوال 20 عاماً

وفي هذه المرحلة بات من الضروري أن تتخذ الدولة اللبنانية خطوات جدية وحاسمة لقطع الطريق على مناورات “حزب الله” وتكتيكات المماطلة، عبر وضع جدول زمني واضح لتفكيك منظومته العسكرية التي باتت خطراً كبيراً على الاستقرار الداخلي والإقليمي، وكذلك ذراعه المالية المرتبطة بالاقتصاد غير الشرعي وتبييض الأموال التي تديرها مؤسسة “القرض الحسن”.

فتفكيك البنية العسكرية لـ”حزب الله” لم يعُد مجرد مطلب سياسي أو سيادي، بل بات ضرورة لبقاء الدولة اللبنانية نفسها، فوجود جيش موازٍ واقتصاد موازٍ وأجهزة مالية تعمل خارج القانون يقوض أي محاولة للإصلاح ويبقي لبنان رهينة لصراعات إقليمية لا ناقة له فيها ولا جمل.

والمعركة اليوم ليست فقط على سلاح “حزب الله”، بل على قدرته على تمويل نفسه والتحايل على القرارات الدولية من خلال واجهات مالية غير شرعية، وعلى الدولة اللبنانية أن تتحرك قبل فوات الأوان لأن الانتظار الذي يسعى إليه الحزب ليس سوى وصفة مؤكدة لانهيار ما بقي من الدولة.

لكن لا يمكن تفكيك البنية العسكرية من دون تفكيك البنية التمويلية التي تحميها وتغذيها، فالسلاح لا يعيش في الفراغ، بل يحتاج إلى شبكة مالية متماسكة، قادرة على توفير رواتب وثروات وولاءات. وهنا بالضبط تتقاطع مسؤولية الدولة اللبنانية مع أحد أخطر التحديات السيادية، ضرب المنظومة المالية السرية التي تمكن “حزب الله” من البقاء خارج المحاسبة. وهذه المنظومة التي تعمل في الظل وتحت ستار الجمعيات الخيرية، تحولت إلى شبكة تمويل موازية تهدد ما بقي من النظام المصرفي اللبناني، وفي طليعة هذه الشبكة يبرز اسم “القرض الحسن”.

مصرف “ظل”

لكن وبسخرية القدر يبدو أن الذراع المالية للحزب بدأت تتآكل من تلقاء نفسها نتيجة التطورات الإقليمية، ولا سيما تأثير سقوط النظام السوري، إذ تلقى “حزب الله” ضربة استراتيجية على مستوى تمويله، فالنظام السوري كان يشكل القناة الرئيسة التي استخدمها “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني” لتحويل الأموال إلى الحزب في لبنان. وهذا التحول دفع “حزب الله” إلى البحث عن بدائل وطرق جديدة لتحويل الأموال، من خلال رحلات جوية تجارية من إيران وتركيا والإمارات إلى لبنان، مروراً بمكاتب الصرافة وشبكات مالية موازية، في تحدٍ صارخ للأنظمة المصرفية الدولية.

لكن على رغم هذه المحاولات، يمر “حزب الله” حالياً بأسوأ وضع مالي منذ أعوام، مما يفسر السعي الحثيث إلى إنعاشه عبر مؤسساته الاقتصادية الخاصة، وفي مقدمتها “جمعية القرض الحسن” التي باتت تمثل الذراع المالية المركزية للحزب.

و”القرض الحسن” ليست مؤسسة خيرية كما يسوق لها، بل هي بنك غير شرعي بامتياز يدير معظم تمويلات “حزب الله”، من دفع الرواتب إلى تمويل العمليات وإعادة الإعمار. وبسبب هذا الدور المحوري، خضعت الجمعية لعقوبات متكررة من الولايات المتحدة ودول أوروبية وغربية وكذلك دول الخليج العربي.

وكشفت الأشهر الأخيرة عن هشاشة هذه المنظومة، إذ تعاني الجمعية ضائقة مالية حادة، ناجمة عن زيادة النفقات نتيجة تمويل برنامج إعادة الإعمار الذي يديره الحزب وانخفاض ملحوظ في الدخل بعد تراجع الدعم الإيراني الميسر عبر سوريا.

وتشير تقديرات متحفظة إلى أن “القرض الحسن” غارقة في ديون لا تقل عن عشرات ملايين الدولارات، مما اضطرها إلى استخدام رأس المال الخاص بعملائها لتمويل مشاريع الحزب، في ما يشبه مخططاً احتيالياً يعرض أموال المواطنين للخطر.

وحتى هذه الخطوة الجذرية لم تكن كافية، إذ اضطرت الجمعية في أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي إلى تجميد مدفوعات برنامج إعادة الإعمار موقتاً، مما يؤشر إلى أزمة سيولة حقيقية تهدد استمرارها.

تهديد القطاع المصرفي

ومن الواضح أن “القرض الحسن” لا تخضع لأي من قواعد الحوكمة أو المعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب أو “إعرف عميلك” (KYC)، فهي غير مسجلة كمصرف في لبنان ولا تدفع الضرائب ولا تقدم بياناتها إلى مصرف لبنان أو الجهات الرقابية، مما يتيح له العمل كشبكة مالية مغلقة وموازية تسهل تحويل الأموال إلى وحدات الحزب العسكرية وتمول نشاطاته من دون حسيب أو رقيب.

ولعل ما يزيد من خطورة هذه المؤسسة أنها أحد الأسباب الجوهرية التي أدت إلى إدراج لبنان على “اللائحة الرمادية” من قبل “مجموعة العمل المالي” (FATF) في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024، مما فاقم عزلة النظام المصرفي اللبناني وأضعف ثقة المجتمع الدولي به.

هل تتحرك الدولة؟

وفي ظل تشكيل حكومة جديدة، أعلنت السلطات اللبنانية نيتها تطبيق إصلاحات جذرية تمكن البلاد من الخروج من أزمتها المالية واستعادة الثقة الدولية. لكن هذا الإعلان، ليكون ذا مصداقية، يجب أن يترجم بخطوات ملموسة تبدأ بوقف عمل مؤسسات الصيرفة الموازية التي تمثلها “القرض الحسن”.

ولا يمكن لهذا الإصلاح أن ينجح ما لم تُحاسب الكيانات التي تعمل خارج القانون وفرض رقابة صارمة عليها، وبالنسبة إلى “جمعية القرض الحسن”، إما أن تخضع للمعايير الدولية لناحية الإفصاح المالي ودفع الضرائب والكشف عن علاقاتها مع “حزب الله”، أو تُغلق فوراً.