هل أفلح دونالد ترامب بدفع القباطنة خارج الاسترخاء في المياه الراكدة؟

هل أفلح دونالد ترامب بدفع القباطنة خارج الاسترخاء في المياه الراكدة؟

الكاتب: راغدة درغام | المصدر: النهار
16 آذار 2025

الديبلوماسية المهذبة الهادئة انحسرت وحلت مكانها الديبلوماسية الفجّة الصاخبة. لننتظر النتائج النهائية…

ماذا بعد تلك الأمواج الزلزالية التي حرّكها الرئيس دونالد ترامب في المياه الراكدة لدفع القباطنة خارج الاسترخاء فارضاً التفكير بوسائل تجددية للإبحار وإلا الغرق؟ هل يفلح ترامب بوسائله غير المعتادة، أو يفشل؟

لنتطرق إلى بعض الملفات التي يطوّقها العنصر الزمني مثل حرب أوكرانيا، معركة إيران العقائدية والنووية، مصير غزة على وقع الاستراتيجيات الإسرائيلية والعربية، والتحديات التي تواجه المشرق العربي بالذات في سوريا ولبنان. ولنراجع بأكبر قدر من الموضوعية تطور هذه الملفات منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض لنرى أين نحن وإلى أين نتجه؟

فجّر الرئيس الأميركي ملف الحرب الأوكرانية ليحقق، كما يقول، هدف إنهائها. فاجأ الأصدقاء والحلفاء في أوروبا، بل استفزهم إلى التفكير العاجل والتجددي في العلاقة بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وفي مصير حلف شمال الأطلسي والمستجدات الأمنية لتولّي الدفاع عن أوروبا.

في البدء، حاصر الرئيس ترامب نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مشهد مدهش في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض كسر في خلاله التقاليد الديبلوماسية واستبدلها بالتوبيخ والتأنيب والتهديد. هذا أثار حفيظة عالمية، بالذات أوروبية، دفعت أوروبا إلى توحيد مواقفها مع بريطانيا وراء دعم أوكرانيا وإبلاغ سيد البيت الأبيض أن أوروبا لن تستلقي فيما يستفيد سيد الكرملين فلاديمير بوتين من انقلاب دونالد ترامب على أوكرانيا. إنما ما حرصت أوروبا عليه، هو القيام بتجهيز زيلينسكي بصورة صارمة قبيل توجهه إلى السعودية للاجتماع مع وفد أميركي برئاسة وزير الخارجية ماركو روبيو للبحث في هدنة مع روسيا. حرصت القيادات البريطانية والألمانية بالذات على إبلاغ زيلينسكي أن عليه إعادة تأهيل نفسه مع الرئيس الأميركي بعيداً من العناد ومن الاستفزاز، وعليه أن يفهم حيوية العلاقة عبر الأطلسي وضرورة ديمومتها. فهمت أوروبا أهمية عنصر الشخصية عند التعامل مع دونالد ترامب وكذلك عنصر سحب البساط من تحت الاسترخاء لإيقاظ المعنيين إلى التفكير خارج الصندوق. قادة أوروبا أفهموا زيلينسكي الأمر بحزم ودربوه على الامتنان.

على طريقة ترامب، وطبق اندفاعه الى إنجاز ما يسعى وراءه عاجلاً، وبعد نجاح المحادثات الأميركية- الأوكرانية في الضيافة السعودية وبزخم أوروبي، حرّك الرئيس الأميركي شراعه للإبحار نحو المياه الروسية. إنجاز الاتفاق على هدنة بين روسيا وأوكرانيا أعاد الاصطفاف بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية في طرحٍ تم تقديمه إلى موسكو بما وضع الكرملين في زاوية الإحراج والاضطرار لتبنّي مواقف صعبة ومصيرية.

باختصار شديد، حشر الرئيس الأميركي نظيره الروسي بين الموافقة على هدنة في الطريق إلى إنهاء الحرب مع أوكرانيا، وبين المضي في الحرب وسط مضاعفة المساعدات الغربية لأوكرانيا وتحت سوط مضاعفة العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا.

فجأة، انقلبت المقاييس قليلاً في أذهان الذين سخفوا من “الترامبية” واعتبروا مواقف الرئيس الأميركي استرضائية للرئيس الروسي، على أساس اتهامه بأنه معجب بالطغاة وأن العلاقة الشخصية بين ترامب وبوتين تشكّل الركيزة الأساسية للسياسة الأميركية نحو روسيا.

الآن، يحاول الرئيس الروسي الإبحار في الأمواج وسط عصف أميركي- أوروبي. وافق على مبدأ الطرح الأميركي بالهدنة، إنما اشترط الكثير من الإيضاح ومن الضمانات الضرورية لروسيا. بعض هذه الضمانات مستحيل على الدول الغربية مثل توقفها عن إمداد أوكرانيا بالذخيرة العسكرية أثناء الهدنة، وعلى نسق التعهّد عدم السماح لعضوية أوكرانيا في حلف الناتو بصورة مطلقة.

“نعم، ولكن”، ليس رداً روسياً مقنعاً لدونالد ترامب كما “لسنا ضد، رهن الإيضاحات والمفاوضات”. والسؤال المهم الآن هو: إلى متى سينتظر ترامب رد بوتين عليه. أعطاه 72 ساعة في البداية، فأتى تصريح بوتين الأولي، ثم سيعطيه حتى الثلثاء، كما تؤكد مصادر مطّلعِة، ليقرر سيد الكرملين ما هو رده الصريح.

بوتين من جهته، يراهن على كسب الوقت قبل الإجابة الملموسة لأنه في مأزق في حال وافق أو لم يوافق على الهدنة. فإذا وافق، فيكون بذلك يغامر بنفسه في الداخل الروسي الذي سيسائله لماذا خاض “العمليات الخاصة” في أوكرانيا، وبماذا خرج من تلك الحرب المكلفة خصوصاً إذا فشل في الاحتفاظ بالأراضي الأوكرانية التي ضمتها روسيا؟ وفي حال لم يوافق، أمامه استمرار الحرب ومضاعفة العقوبات على روسيا.

الأرجح أن المساومات والمقايضات تُبحث وراء الكواليس بين الطرفين الأميركي والروسي. الرئيس ترامب يريد إجابة مطلع هذا الأسبوع قبل تسلّم المستشار الألماني الجديد، فريدريش ميرتس، موقع القيادة الأوروبية عملياً. فهو من أشد المتمسكين بالدور الأوروبي الأساسي في أي مفاوضات مع روسيا في شأن أوكرانيا، وهو من أشد الداعمين لأوكرانيا. ترامب يريد الاتفاق مع بوتين استباقاً لعراقيل ميرتس.

 خلاصة الأمر، حالياً، هو أن دونالد ترامب نجح في دفع القباطنة الأوروبيين والروس والأوكرانيين خارج الاسترخاء وذلك بوسائل التهديد بعواقب البقاء في المياه الراكدة. الديبلوماسية المهذبة الهادئة انحسرت وحلت مكانها الديبلوماسية الفجّة الصاخبة. لننتظر النتائج النهائية، إنما لا بد من الاعتراف، رغم التحفظ عن استخدام الإهانة وسيلة لإحداث التغيير، أن إعادة خلط الأوراق كانت ضرورية، وما زالت، ليس بهدف إنهاء الحرب الأوكرانية وحسب، وإنما أيضاً في إطار إيقاظ أوروبا إلى ضرورة استقلالها قليلاً والاعتناء بنفسها على حسابها أكثر.

في الموضوع الإيراني، يقدّم الرئيس دونالد ترامب إلى القيادة الإيرانية سبيل تطبيع العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة بما يؤدّي إلى رفع العقوبات عنها، وفك عزلتها، وأخذ مكانها إقليمياً وعالمياً. شرطه الأساسي هو توقف طهران عن برنامجها النووي الذي وصل إلى مرحلة متقدمة من التخصيب والقدرة على صنع السلاح النووي. الشرط الآخر هو استبدال طهران سياسة دعم الميليشيات في الدول السيادية، بسياسة الكف عن استخدام هذه الأذرع كجزء أساسي من سياسة النظام الإيراني الخارجية.

الرسالة التي بعثها الرئيس ترامب إلى القيادة الإيرانية، ويصفها بـأنها “الوثيقة” المقترحة”، لاقت على الصعيد العلني مقاومة إيرانية لما احتوته من مطالب وشروط، وهذا أمر بديهي ومفهوم. ذلك أن المطلوب فعلياً من الجمهورية الإسلامية الإيرانية هو التخلّي عن أمرين أساسيين في عقيدة النظام هما: أولاً، الطموحات النووية التي تحفظ للنظام استمراريته بالدرجة الأولى، لأنها تحشد أيضاً العاطفة الإيرانية الشعبية وراء تطور إيران إلى دولة نووية. وثانياً، استخدام الذرائع أساساً في السلوك الإيراني الإقليمي لفرض الإذعان لطهران في العراق ولبنان وروسيا واليمن.

التطورات في سوريا قضمت قدرات النظام الإيراني بعد إسقاط نظام بشار الأسد. التدخل الإيراني المباشر في سوريا وعبر وكيله “حزب الله” اللبناني لن يلاقي النجاح، بل إنه في مصيره إلى الفشل. الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع عازم على التصدّي لإيران داخل سوريا. تركيا أيضاً لن تسمح باستعادة طهران موقع قدم في سوريا. وإسرائيل بدورها عازمة على منع استئناف إيران سيطرتها على الممرات الحيوية في سوريا والتي توصلها إلى لبنان.

فحوى ما يقوله الرئيس ترامب للقيادة الإيرانية هو أنها قد وقعت في خندق التطويق الإقليمي، وأنها ستزداد غرقاً في المياه العاصفة إذا فشلت في فهم تداعيات استمرارها في تنفيذ عقيدة النظام.

بكلام آخر، يقول ترامب للقيادة الإيرانية إن في وسعها الاستمرار، ولا مانع من بقاء النظام، ولكن، شرط تجريده من عقيدته الأساسية: النووية، والإقليمية. في إمكانه تعديل منطق النظام وبالتالي التعافي من العزل والعقوبات. أما في حال رفضه تلك الفرصة المتاحة، أمامه شد خناق العقوبات عليه اقتصادياً، والتعرض لضربة عسكرية إسرائيلية مدعومة أميركياً لتدمير منشآته النووية.

حرص دونالد ترامب على التعامل مع القيادة في طهران بالاحترام، عبر إشادته بالشعب الإيراني العريق. عرض عليها الترغيب بمكافأة التأهيل والنمو الاقتصادي، ووضع أمامها الترهيب بعصا عمليات عسكرية ضدها وضد وكلائها وأذرعها، من الحوثي في اليمن إلى “حزب الله” في لبنان.

ترامب يفضّل أن يكتفي “حزب الله” بخسارته ويقر بها بدلاً من التعالي والتهديد والإصرار على احتفاظه بسلاحه، مما سيؤدّي إلى استئناف إسرائيل عملياتها العسكرية للقضاء الكامل على عناصره وبنيته التحتية مهما كلف الأمر.

في موضوع لبنان، إن الرئيس الأميركي لا يخضع للإملاءات الإسرائيلية وإنما يضغط على إسرائيل لترسيم الحدود مع لبنان لقطع الطريق على أيّ طموحات لها في الأراضي اللبنانية. إنما إذا أصرّت إيران على استخدام “حزب الله” بصورة تصعيدية في لبنان، وسيلة تفاوضية مع الرئيس الأميركي، فإنه سيبلغها حازماً رفضٍاً قاطعاً لاستخدام أذرعها ورقة تخويف له أو مقايضة معه لأن الأمر مرفوض عنده.

يمكن القول إذن، إن دونالد ترامب تبنّى أسلوباً أقل استفزازاً مع إيران من ذلك الذي تبناه مع حلفائه الأوروبيين في موضوع أوكرانيا، سوى ما تعلق بدور إيران في دعم “حماس” في غزة. طهران قررت الابتعاد عن ملف غزة خوفاً من تداعياته المباشرة عليها، فانسحبت منه تدريجاً وبلا تعطيل للجهود العربية الرامية لإيقاف مشاريع الرئيس الأميركي الجنونية بشأن غزة. فأولوية حكام إيران هي إيران أولاً، وليس ما تسمى القضية الفلسطينية.

هذا يأتي بنا إلى تطور مواقف دونالد ترامب بدءاً بالدعوة إلى تهجير أهالي غزة لتحويل شاطئها إلى “ريفييرا الشرق” ليمتلكه هو وصهره جاريد كوشنر، صاحب الفكرة الأساسية، إلى إعلانه الأسبوع الماضي أن “لا أحد يجبر سكان غزة على المغادرة” و”لن يطرد أحدٌ أحداً من غزة”.

أسرعت الأوساط العربية الإعلامية إلى التحدّث عن “تراجع” ترامب عن مواقفه في شأن غزة. واقع الأمر أن الدول العربية المعنية تبنّت مواقف حكيمة في التعامل مع دونالد ترامب بتجنب استفزازه أو تهميشه، مع إيضاح تداعيات مواقفه على مشاريعه وأطروحاته هو بالذات في المنطقة العربية ومع إسرائيل. تمكنت هذه الدول من التوصل إلى تلطيف ترامب لمواقفه من دون أن تزجه في زاوية “التراجع” التي تستفزه، عكس ما تبنته وسائل الإعلام من قراءة لمواقفه مما أدّى إلى ردٍّ يتنافى مع ذلك الاستنتاج.

المسافة مهمّة ما بين عدم التهجير بالقوة، والهجرة الطوعية لإخلاء غزة من أهلها. هذا أمر غاية في الأهمية يتطلب المعالجة الدقيقة. مهم أن يأخذ دونالد ترامب خطوة إلى الوراء في إطار عدم الدعوة إلى التهجير، خطوة يجب أن تلقى التشجيع بالتأكيد. إنما من الحكمة عدم القفز إلى الاستنتاج بأن الرئيس الأميركي تراجع عن مواقفه كاملة نحو غزة. من الخطأ تفسير فتح قنوات التفاوض المباشر مع “حماس” بهدف إطلاق الرهائن بأنه تحوّل سياسي واستراتيجي نحو القبول بحكم “حماس” في غزة.

ما نجح الرئيس غير الاعتيادي بتحقيقه هو دفع القادة العرب إلى النظر مجدداً، بتجددية وبجدية في الملف الفلسطيني- الإسرائيلي. حتى الآن، ما زالت اسرائيل تهيمن على تفكير دونالد ترامب وسياسته بكل خطورتها وأهدافها التوراتية. فليت القيادات العربية تثابر بحكمة في إنزال دونالد ترامب من أعلى الشجرة، تاركة إياه في شعور يحتاجه، وهو تباهيه بأنه الرجل الذي تسلّق الشجرة.