
توفيق سلطان: خدام فاجأنا بالقول «ياسر عرفات جاسوس إسرائيلي»
يسمع الصحافي أحياناً عبارات صادمة فيدفعها إلى صندوق ذاكرته ويحكم إقفاله. ربما لأنها عنيفة. أو مؤذية. أو مكلفة. وربما لأن قائلها سيسارع إلى التبرؤ منها تفادياً لعواقبها.
هذا ما حدث. في الأسبوع الأخير من يناير (كانون الثاني) 1987، عُقدت في الكويت الدورة الخامسة لمؤتمر القمة الإسلامي، وكان بين القادة المشاركين الملك فهد بن عبد العزيز، والرئيس حافظ الأسد، والرئيس أمين الجميل، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.
طلبت مقابلة عرفات فاستقبلني. بعد المجاملات جاءت المفاجآت. سألني ماذا يجري في بيروت؟ فأجبت: «أنت تعرف أن البلد منشغل بذيول حرب المخيمات». رد: «لا يا غسان. هذه ليست حرب المخيمات. اسمها الحقيقي الحرب على المخيمات. وهي شُنَّت بقرار شخصي من حافظ الأسد، وللأسف تشارك حركة (أمل) برئاسة نبيه بري في تنفيذ القرار يساعدها للأسف أيضاً اللواء السادس في الجيش اللبناني».
لاحظ عرفات أنني استغربت صراحته، فرفع لهجته غاضباً وقال: «يحاول الأسد استكمال ما بدأه آرييل شارون (وزير الدفاع الإسرائيلي) في غزو 1982 وعجز عن إنجازه. هذا استكمال لمهمة شارون الرامية إلى تصفية منظمة التحرير».
«الأسد تاجر سوق الحميدية»
قلت له إن التهمة خطرة فهي موجهة إلى رئيس سوريا، فتابع منفعلاً أن «الأسد ليس رئيس سوريا. إنه تاجر سوق الحميدية. ليته انشغل باستعادة الجولان بدل الانهماك بمحاصرة القرار الفلسطيني المستقل إرضاء لأميركا وإسرائيل. ستؤكد لك الأيام ما أقوله. حافظ الأسد لا يعترف بفلسطين ولا بلبنان ويكره العراق متغطياً بكراهيته لصدام حسين».
أصابني قدر من الذهول، لكنه تابع. قال: «ما يسمونه انتفاضة في حركة فتح هو مؤامرة حاكها الأسد ويمولها (معمر) القذافي. حلم الأسد الوحيد هو تحويل القضية الفلسطينية ورقة في مساوماته والهيمنة على لبنان». وبعدما انحسر غضب عرفات انتقلنا إلى الكلام في مواضيع أخرى.
لم أشارك أحداً في الكلام الذي سمعت، وهو لم يكن ضمن الحوار الصحافي أصلاً. لكن ما قيل حيّرني. لماذا اختار عرفات صحافياً لبنانياً للتعبير عن مشاعره الحقيقية تجاه الأسد. قلت أستوضح السبب من رجل قريب إلى عقله وقلبه هو محسن إبراهيم، الأمين العام لـ«منظمة العمل الشيوعي».
قال إبراهيم: «حسناً فعلت أنك لم تكشف ما سمعت. لو فعلت لما كان هناك خيار أمامه غير أن ينفي. فمثل هذه العبارات يمكن أن ترتب عقوبات على أفراد ومخيمات». وأضاف: «في أي حال هذه مفيدة لك كصحافي شاب فأنت الآن تتمرس بالكراهيات العربية – العربية والتي تحكمت بمواقف وقرارات. وفي الحقيقة لا يمكنك فهم السنوات الأولى من حروب لبنان من دون أن تلتفت إلى مثلث يضم الأسد وعرفات وكمال جنبلاط. اعتبر الأسد أن عرفات هو العائق الكبير أمام محاولته الإمساك بالورقة الفلسطينية، وأن كمال جنبلاط هو العائق أمام السيطرة المطلقة على لبنان. ومن حسن الحظ أن عرفات لم يواجه مصير جنبلاط». وتابع مازحاً: «للأسف كان حظي أن أقيم داخل هذا المثلث وكيدياته ومعي جورج حاوي وآخرون».
حاورت طويلاً محسن إبراهيم حول هذا المثلث وغيره. فاجأني هو الآخر ذات يوم بقصة. قال إنه سأل عرفات عن صدام والأسد، والفارق بينهما، فجاءه الرد: «صدام صعب لكنه يرى فلسطين كقضية. أما الأسد فيعتبرها مجرد ورقة». ونقل عن عرفات قوله: «يقول إعلام الأسد إنني لا أمثل الفلسطينيين. أنا أستطيع خوض انتخابات حرة في أي قرية فلسطينية أو مدينة أو مخيم في الداخل والخارج. هل يستطيع الأسد خوض انتخابات حرة في دمشق أو حمص أو حلب؟ وسنعفيه سلفاً من حماة» التي شهدت أقوى معارضة لحكم الأسد الأب.
قبل أيام قصدت السياسي اللبناني المتمرس توفيق سلطان وهو في الحقيقة ذاكرة لمدينتين. طرابلس مسقط رأسه وبيروت التي عاش منعطفاتها وتحولاتها رفيقاً لكمال جنبلاط ونجله وليد وقريباً من رفيق الحريري ونجله سعد ومقرباً من عرفات وحاضراً في اللقاءات مع الأسد وقيادات عربية أخرى. ذاكرته مثقلة بالعناوين والحكايات خصوصاً حين كان نائباً لرئيس «الحركة الوطنية» التي ضمت القوى اليسارية والقومية وقادها كمال جنبلاط.
بداية شائكة بين الأسد وعرفات
كانت علاقة عرفات شائكة مع دمشق منذ البداية. إثر حادث دموي داخل «فتح» اعتُقل عرفات في دمشق وكان اسم وزير الدفاع حافظ الأسد. بعد ما عاشته عمّان من اضطراب وصدامات بين المنظمات الفلسطينية والجيش الأردني عام 1970، بات الأسد يعتبر وجود المنظمات المسلحة مرادفاً للفوضى.
شعر الأسد بشيء من القلق حين انتقلت المنظمات إلى بيروت وأبرمت تحالفاً واسعاً مع الأحزاب اليسارية و«القوى الوطنية» في لبنان. راقب الأسد تحول عرفات اللاعب الأبرز على «الساحة اللبنانية». لم ينجح الحكم السوري في وضع يده على الملف الفلسطيني فنفوذ «فتح» كان طاغياً وبريق عرفات واسعاً، خصوصاً حين صار صاحب القرار في الجانب اللبناني من الحدود مع إسرائيل.
يقول توفيق سلطان: «حافظ الأسد لم يكن لديه في الأساس احترام لشيء اسمه المقاومة الفلسطينية. سمعت منه هذا الكلام وسمعته من أجوائه. كان الرأي السائد لديه أن ليست هناك مقاومة. هناك مجموعات مسلحة تعمل بالتنسيق مع المخابرات. وكان التباعد صريحاً بين الرجلين».
وروى واقعة تعكس هذا التباعد، قائلاً: «ذات يوم قال الأسد لعرفات إنه لا يوجد شيء اسمه فلسطين، بل جنوب سوريا. ورد عرفات بأن ليس هناك شيء اسمه سوريا، بل شمال فلسطين. جرت محاولة لخلط المزاح بالجد. لكن الحقيقة هو أن الأسد كان ينظر إلى المسألة من هذه الزاوية».
وأوضح أن «أنظمة عربية أخرى كانت ترغب في وضع يدها على الموضوع الفلسطيني لتستفيد منه ومن دون تحمل تبعاته. وانطلاقاً من رؤية حزب البعث، كان هناك في بغداد ودمشق من يعتبر أن القضية أكبر من أن تنفرد منظمة التحرير الفلسطينية بامتلاك القرار في شأنها ومستقبلها».
وأضاف سلطان: «كانت العلاقة بين نظام حافظ الأسد ومنظمة التحرير صعبة وكنا نحن في (الحركة الوطنية) في قلب هذه الأزمة أو في الوسط بين الفريقين. كانت لدى المنظمة إذاعة في سوريا. بثت تعليقاً ينقل كلاماً لعرفات وردت فيه عبارة: في فمي ماء، وأشياء أخرى. أرسلت السلطات السورية جرافة واقتلعت المحطة من أساسها واعتقلت عدداً من العاملين فيها. جاء الفلسطينيون ليلاً وطلبوا مني أن أتحدث مع كمال بك في الأمر. قال جنبلاط: علينا أن نحاول ترتيب لقاء مع الأسد. وكان ذلك في رمضان. اتصلت بحكمت الشهابي الذي كان مديراً للمخابرات ويتولى التنسيق معنا.
وصلنا إلى الموعد مع الأسد قرب موعد الإفطار. جلس جنبلاط قبالة الأسد وجلست أنا إلى جانب الرئيس السوري. ساد على الطاولة جو تطاول على شخص عرفات وترددت عبارات من نوع: سنأتي به (أي سنعتقله) وسنقلبه فلق (أي سنضربه أسوة بالمعتقلين).
كان جنبلاط بطبيعته مهذباً لا يحب الكلام الخارج على اللياقة. توقف عن الأكل فطلب مني الأسد أن أتدخل. قلت له: يا سيادة الرئيس رجال المقاومة الفلسطينية ليسوا رفاقنا في المدرسة. نحن ملتزمون حيال القضية الفلسطينية ورمزها اليوم منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات. وقلت لهم إن رجال المقاومة حساسون بسبب ما مر عليهم من ظروف ومسائل. رد الأسد: والله ما يقوله أبو راشد صحيح. اتفضل كمال بك واعتبرها منتهية. وتم الإفراج عن المعتقلين. نعم كنا نتدخل في مسائل من هذا النوع».
كراهية متبادلة
سألت سلطان إن كانت الكراهية المتبادلة بين الأسد وعرفات واضحة في تلك الأيام، فأجاب: «معلوم (بالتأكيد) معلوم معلوم. كان من وسائل التقرب إلى الأسد التطاول على شخص ياسر عرفات. ذات يوم كنت مع وليد جنبلاط وعاصم قانصوه (المسؤول عن حزب «البعث» في لبنان) في مكتب عبد الحليم خدام. ورد اسم عرفات وإذ بخدام يقول: ياسر عرفات جاسوس إسرائيلي. سكت ولم أعلق. وجه كلامه إليّ فقلت له: سمعتك. ذهب أبعد وسألني: ما رأيك؟ أجبت: أنا أحترم رأيك وهذا مكتبك لكن إن كنت تريد رأيي فسيثير زعلك.
كان المناخ حول الأسد معادياً خصوصاً لحركة «فتح». حاولوا بكل الوسائل اختراق «فتح». بعد سنوات تمكنوا من إحداث انشقاقات كان أبرزها ذلك الذي قاده أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة. قدموا لهم تسهيلات ومعسكرات. طبعاً كانت لدى سوريا قدرة على تصغير الأحجام أو تكبيرها».
لم يكن ياسر عرفات خصماً سهلاً على رغم معرفته بأن الجغرافيا تُقدم لحافظ الأسد سلاحاً فعالاً في الضغط عليه. كان يرد على رياح الكراهية التي تهب ضده من دمشق بأسلوبه الشهير. يرفع شارة النصر ويتحدث عن «شلال الدم الفلسطيني» و«أطول حرب عربية – إسرائيلية»، في إشارة إلى صمود المقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين إبان الحصار الإسرائيلي لبيروت في 1982 على يد وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون.
وساد انطباع في تلك الأيام أن إصرار عرفات على تكرار شعار «القرار الوطني الفلسطيني المستقل» إنما كان موجهاً ضد الأسد قبل أن يكون موجهاً إلى أي جهة أخرى. وفي المقابل كانت دمشق تعتبر أن عرفات يتعمد تجاهل التضحيات التي قدمها الجيش السوري إبان الغزو الإسرائيلي لبيروت، وأنه ينتظر أي فرصة للانضمام إلى مفاوضات سلام مع إسرائيل بعدما تعذر عليه اللحاق بركب أنور السادات في نهايات السبعينات.
بعد خروج قوات منظمة التحرير من لبنان إثر الغزو الإسرائيلي، اندلع التمرد في «فتح». في 1983، اتخذ عرفات قراراً يُشبه المجازفة الخطرة. وصل سراً إلى شمال لبنان وأشرف شخصياً على بناء متاريس وتحصينات في محيط المدينة. تصرف كمن يتحدى الأسد في «عقر داره» ويحاول استدراجه إلى الكشف عن دوره المباشر «لتأكيد أن قادة التمرد ومعهم أحمد جبريل (زعيم الجبهة الشعبية – القيادة العامة) ليسوا سوى أدوات في لعبة يديرها الأسد».
سألت سلطان عن تفسيره لعودة عرفات إلى طرابلس في شمال لبنان، فتذكر: «أراد عرفات أن يثبت للعالم كله أن سوريا (في ظل الأسد) هي جزء من مشروع ضرب المقاومة في لبنان. والحقيقة أن الأجهزة السورية لم ترحمهم. اغتالت سعد صايل («أبو الوليد» أحد أبرز القيادات العسكرية في تاريخ الثورة الفلسطينية) واعتقلت «أبو طعان» من قيادات «الكفاح المسلح» وفقأت عينه.
عاد عرفات ليكشف الأطراف الحقيقية في المواجهة. قام بحركة اعتراضية من خلال «حركة التوحيد» في طرابلس وجهات أخرى. طبعاً لم يكن عرفات يعتقد أن باستطاعته الانتصار على الجيش السوري عبر التحصّن في طرابلس. كان يريد كشف دور النظام السوري. طبعاً للأسف دفعت طرابلس ثمناً غالياً ولا تزال أحياء فيها مدمرة حتى اليوم. حصل الدمار حين تدخل الجيش السوري مباشرة واستخدم المدفعية. نعم الجيش السوري كان الطرف الحقيقي في مواجهة عرفات وما يقولونه عن أحزاب وفصائل كذب».
لم تكن الرعاية السورية لانشقاق تنظيم «الانتفاضة» عن «فتح» في 1982 سراً، واعتبرت محاولة جديدة من سوريا الأسد للإمساك بالقرار الفلسطيني، بذريعة أن عرفات يستعد للدخول في مساومات وتقديم تنازلات. لكن هل كان ما سمعته من عرفات لاحقاً عن دعم مالي من القذافي للتمرد صحيحاً؟ شاءت المهنة أن أحاور لاحقاً أحمد جبريل الذي لم يحاول يوماً إخفاء كراهيته لعرفات.
وكان جبريل اختار باكراً نهج التطابق مع نظام الأسد، مع امتياز إضافي هو العلاقة الوثيقة مع القذافي الذي لم يبخل عليه يوماً بالتسليح والتمويل. أمضيت ساعات مع جبريل في دمشق أقلب معه صفحات ذاكرته، بعد ما يزيد على عقد من «معركة طرابلس» التي اندلعت عام 1983 بين «فتح» من جهة، وسوريا الأسد والفصائل الموالية لها فلسطينياً بدعم من ليبيا القذافي من جهة أخرى. كان صريحاً. كان يفتح الإذاعة يومياً على أمل سماع خبر اغتيال عرفات على يد «إسلامبولي فلسطيني»، على غرار خالد الإسلامبولي الذي اغتال الرئيس المصري أنور السادات.
ولم يتردد جبريل في القول إنه أخذ قادة «الانتفاضة» في «فتح» إلى خيمة «الأخ العقيد» وانتهى الاجتماع بقرار ليبي بتقديم خمسة ملايين دولار شهرياً للانتفاضة الرامية إلى إسقاط عرفات وقد نفذ القذافي وعده.
سألت سلطان عن اتهام عرفات لحافظ الأسد بأنه حاول استكمال ما عجز شارون عن إنجازه، فرأى أن القصة ليست بسيطة على الإطلاق لكن في النهاية «استطاع الأسد أن يضعهم في مركب وأن يراهم يقيمون في فندق في تونس. طبعاً مع الالتفات إلى أن الأسد نجح في تحقيق سيطرة كاملة على لبنان. سيطرة لا سابقة لها. وكلنا نعرف كم رئيساً للجمهورية انتخب في ظل الإرادة السورية وكم حكومة شُكلت بإرادة سورية. لا أقصد القول إن كل من تعاون مع سوريا كان صناعة سورية. تعاونت معها قوى لها حيثية ووجود في الواقع السياسي اللبناني. كان على السياسي أن يختار طريق الواقعية كي لا يواجه مصير العميد ريمون إده الذي مات في المنفى لرفضه التعاون مع السيطرة السورية».
لم تقتصر الكراهيات العربية – العربية على علاقات عرفات مع حافظ الأسد. كان لبنان أيضاً مسرحاً للكراهية التي استحكمت بين «البعثين» العراقي والسوري وخصوصاً بين صدام حسين وحافظ الأسد.
يقول سلطان: «تعامل معنا صدام حسين بصدق. دعم (الحركة الوطنية) في لبنان وكان لفترة الداعم الوحيد لها. خصص لها مبلغ مليون دولار شهرياً كنا ننفقها على جريدة (الوطن) التي كان يرأس تحريرها المرحوم جوزيف سماحة وعلى المؤتمرات وبطاقات السفر والحراسات. طبعاً كان لدى الجانب العراقي برنامج معارض للدور السوري في لبنان. وقعنا في المنتصف بين الدورين. للأمانة نحن لم نتحزب مع العراق ضد سوريا. بقيت علاقتنا مع السوريين ولم يتسببوا في إيذائنا».
حين قال صدام: لا وحدة ولا حرية ولا اشتراكية!
استوقفني ما سمعه سلطان من صدام حسين حين زار وفد من «الحركة الوطنية» قيادة البعث العراقي التي عادت إلى السلطة في 1968. قال: «كان صدام نائباً للرئيس وكانت تربطني صداقة بطارق عزيز. صدام واضح وصريح ومعتد بنفسه وشجاع. قال لي: ما هي مبادئنا في حزب (البعث)؟ وحدة وحرية واشتراكية. وحدة لم نفعلها. الحرية ليست لدينا. أما بالنسبة إلى الاشتراكية كان هناك كم مصنع يعمل وباظت (فشلت). سمعت منه هذا الكلام وكانت المسافة بيني وبينه كالتي بيننا الآن. قال لنا صدام أيضاً: أنتم تتعاملون مع الاتحاد السوفياتي لكنكم لستم نظاماً، فلا تتوقعوا منهم أن يعاملوكم غير المعاملة الحالية.
في رحلة أخرى مع كمال جنبلاط لم يكن صدام موجوداً فالتقينا طه ياسين رمضان عضو القيادة (أصبح نائب الرئيس العراقي لاحقاً). كان غضبهم من سوريا واضحاً إلى حد أن رمضان دعانا إلى إلقاء قنابل المولوتوف على الدبابات السورية. انزعج جنبلاط ولم تكن الزيارة ناجحة».
العلاقة مع القذافي
في 1979 ومع التدهور العلني في العلاقات بين دمشق وبغداد تلقت «الحركة الوطنية» في لبنان أمراً سورياً صارماً مفاده أن الحصول على تمويل من العراق محظور تماماً. ساهمت دمشق في إقناع القذافي بتمويل «الحركة الوطنية»، فبدأ فصل طويل ومثير من العلاقة بين «الحركة» وأحزابها و«الجماهيرية الليبية».
رحلة سلطان الأولى إلى ليبيا القذافي لم تكن موفقة. كان في عداد وفد صغير ضم أيضاً هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» والتحق بهم ليلاً ياسر عرفات. قال إنهم التقوا مسؤولاً ليبياً، لكن اللقاء كان محرجاً وفاشلاً. قال: «طريقتهم في الكلام تنم عن استخفاف بكرامات الناس. سمعنا من الليبي عبارات من نوع شو تكونوا انتو؟ شو «الحركة الوطنية»؟ كانت الزيارة سيئة. الغريب أنني كنت في السيارة حين سمعت بياناً رسمياً يقول إن وفد «الحركة الوطنية» أشاد بالإنجازات العظيمة للثورة وإن وجهات النظر كانت متطابقة في المحادثات.
وجّه الليبيون لاحقاً دعوة إلى وليد جنبلاط. كان يعرف أن علاقتي سيئة بهم لكنه أبلغهم بإصراره على مشاركتي. ذهبنا فأنزلونا في باخرة. كان معنا عاصم قانصوه و(السياسيان اللبنانيان) أسامة فاخوري ومنح الصلح. أرادوا نقلنا بالطائرة من طرابلس إلى بنغازي للمشاركة في تظاهرة هناك على أن نعود للمشاركة في تظاهرة أخرى في طرابلس.
تذرّع فاخوري بتناول نوع معين من الدواء والصلح بأوضاعه الصحية. وكان وليد بالغ التوتر. فجأة وصل شخص ليبي وسأل عني فاستقبلته. قال: هناك دعوة إلى العشاء مع العقيد القذافي لوليد جنبلاط ولعاصم قانصوه ولك. ذهبت إلى وليد فقال: أنا لا أريد أن أذهب. اقتنع في النهاية. أخذتنا سيارة إلى ما يشبه حديقة برية في حالة فوضى وأجلسنا في مكان.
على مسافة نحو خمسة عشر متراً كانت هناك شرفة جلس عليها القذافي و(العاهل الأردني) الملك حسين و(الرئيس الإماراتي) الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان و(ولي العهد السعودي آنذاك) الأمير عبد الله بن عبد العزيز. لم يحفل أحد بنا. اغتنمت مناسبة مرور رئيس الأركان الليبي أبو بكر يونس فقلت له: هذا وليد جنبلاط فقبَّله. قلت له: لم يلتق القذافي. أخذنا إلى الشرفة وكانوا يشربون القهوة. أنا توجهت نحو الأمير عبد الله. توجه وليد إلى حافظ الأسد الذي عرّف وليد على الملك حسين. قبّل الأمير عبد الله وليد بصفته نجل صديقه كمال. وتلقى جنبلاط دعوات من الملك حسين والشيخ زايد واهتم به الجميع. بعد الجلسة، قال جنبلاط: «ظبطت معنا»، فأجبته: إذا حملت بندقية وذهبت إلى الصيد يمكن أن تصطاد. أما البقاء في البيت فلا يسمح بالصيد».