
اليوم ذكرى انتفاضة الأرز الجميلة: بين “الازدواجية” و”الرباعي”… من نحر 14 آذار من الوريد إلى الوريد؟
يا له من نهار. المحبون والمبغضون يتذكرونه. 14 آذار ذاك فاجأ حتى أولياء 14 آذار أنفسهم، بتظاهرة مليونية وأكثر لم، وربما لن يرى لبنان مثيلاً لها. يومٌ مضى كما الحلم. مرّ بسرعة. تلته كوابيس وليالٍ عجاف. وها نحن اليوم، بعد عشرين عاماً على آذار 2005، نسأل في 14 آذار 2025: من نحر ذاك الحلم من الوريد إلى الوريد قبل أن يُحقق كل أهدافه؟ يحقّ لنا، ولكم بعد عشرين عاماً الغوص في كواليس ذاك الحلم لفكفكة القطب طارحين سؤالاً واحداً: إذا صحّ أن 14 آذار انتهت، قُتلت، نُحرت قبل أوانها، فبأيدي مَن حدث ذلك؟ تفاصيل كثيرة قد تشي بالكثير.
لم تنم ثورة الأرز الجميلة ولم تقم. لم يكن موتها فجائياً. بدليل أن فارس سعيد، المنسق العام لأمانة 14 آذار، حاول جاهداً ضخّ الأوكسيجين في رئتيها لكن، في الآخر، يبدو وكأنه استسلم. أراد إحداث صدمة، كما «الصدمة الكهربائية» في غرفة الإنعاش، من خلال هيكلية جديدة جامعة، لكنها لم ترَ النور. تقطعت أوصال الثورة أو الانتفاضة أو الحراك. فلنسمها ما شئنا. لكن، نحتاج أن نعرف: هل انتصر الموت؟ هل يُطبق على 14 آذار ما يقال عن سرج الحصان: يموت الحصان ويبقى سرجه؟
هناك من يعترض على حتمية الموت، من خلال التمييز بين الجسد والروح. الياس الزغبي، عضو الأمانة العامة، أحد هؤلاء الذين يصرون على رؤية الشعاع مهما كان خفيفاً «مات جسد 14 آذار أما روحها فتجلت في مواقف ورؤى تستمر بالحدوث حتى اليوم». متفائل يبدو الرجل الذي كان مسؤولاً إعلامياً في «التيار الوطني الحرّ» ذات مرحلة. كان الياس الزغبي الجنرال في بيروت يوم كان الجنرال ميشال عون في باريس. ويوم عاد عون افترقا. فهل ميشال عون أحد المتهمين بنحر جسد 14 آذار؟ سؤالٌ طرحناه عليه.
قبلها، توقفنا مع الياس عطالله، أمين سرّ حركة اليسار الديمقراطي، الذي كان «لولب» ساحة وسط بيروت، ساحة الحرية، بحثاً عن جوابٍ على نفس السؤال: هذا يوم القتيل. إننا في عشرينية 14 آذار. فمن القاتل؟ سؤالٌ يحتاج إلى تفاصيل من التاريخ للتاريخ.
البوديوم الخشبي والشعب الماسي
كانت محطة تاريخية سبقتها محطات. الياس عطالله يتذكر أنه انضمّ في هذا اليوم، لا بل قبل أيام من هذا النهار، إلى اجتماع أركان الانتفاضة ويقول «كنت أحد المتحمسين جداً للدعوة للمشاركة في تظاهرة شعبية عارمة. هناك من خشوا أن لا يلبي الناس بكثرة. وكنت أردّد: لا سيأتون بأعدادٍ لا تتوقعونها. أصدرت قوى انتفاضة الأرز بياناً صغيراً قصيراً يدعو للمشاركة وبدأت الاستعدادات واللقاءات. اجتمعنا، إلى عشاء، مع سفراء أجانب أجمعوا على أن تظاهرة مضادة لتظاهرة 8 آذار قد تشكل تحدياً. كنا كلما دنونا من 14 آذار ذاك نتلمس أكثر «الهوا الشعبي الساخن» المتدفق. بدأنا الاستعداد لوجستياً وبشرياً. وأتذكر جيداً أننا انتبهنا إلى أن «البوديوم» الخشبي الذي نقف عليه عادة قد لا يتحمل ضغط أعداد المشاركين ويهبط. وضعنا الدعائم الحديدية».
نقاطعه بسؤال، هل قصدتم أن يكون اليوم الكبير في 14 لا في 13 أو 15؟ يجيب عطالله «لا، حصل هذا صدفة كردٍ على تظاهرة شكراً سوريا في 8 آذار». لم ينم أحد من أولياء المناسبة ليلة 13- 14 آذار. كما لم يناموا يوم سقوط الحكومة في 27 شباط. الأيام الجميلة التي شعر فيها رواد الحرية بانتصارات تتالت.
ولكلِ يوم تحضيراته. ويتذكر عطالله «ليلة 27 شباط لم نترك الساحة. كنت أنا وأكرم (شهيب) وبيار (الجميل الحفيد) وأم بيار جويس وابن نايلة معوض (ميشال). أما فارس (سعيد) وسمير (فرنجية) فالتقيا في بيت نايلة معوض السفير الأميركي جيفري فيلتمان. أتذكر أنني كنت في ذاك الحين قد دعوت من الكنيسة، من مأتم سمير قصير، الناس إلى الانتقال من بيت القتيل إلى بيت القاتل وقبع إميل لحود من قصر بعبدا. يومها اتصل بي فيلتمان والبطريرك صفير ووليد جنبلاط، مبدين خوفهم من فتنة وإهراق دماء ومواجهة بين الناس والحرس الجمهوري. يومها قال صفير لي بالحرف: ما بدنا سوابق من هذا الشكل. أما الولايات المتحدة، من خلال فيلتمان، فأرادت إجراء الانتخابات النيابية أولا». أحداث وتفاصيل تذكُّرها يؤلم ويفرح في آن واحد.
الخديعة والدم السائل
حدثت 14 آذار. نزل لبنان إلى ساحة الحرية. عدد الأحرار كان كبيراً جداً. ولكن… نعم هناك دائماً في تواريخ أيامنا ولكن. فقيادة 14 آذار برأي عطالله «اكتفت بأمرين: إسقاط الحكومة وإقرار المحكمة الدولية. واضعة جانباً البرنامج الذي صوتت عليه الهيئة العامة الواسعة التي انبثقت من البريستول». لماذا؟ «ببساطة لأنهم خافوا من التغيير الجذري. لا يريدون أن يشعر الناس أنهم هم من حرروا البلد. أرادوا تغييراً محدوداً. ومارسوا الخديعة بالمضي بالحلف الرباعي قبل الانتخابات النيابية. تخلخلت عظام الانتفاضة. ما عدنا نجتمع. وأصبحت الاتصالات تجرى من تحت الطاولة. التحالف الرباعي كان أمراً خطيراً. وقعوا عليه في وقتٍ كان الدم لا يزال على الأرض».
هل نفهم من هذا أن وليد جنبلاط وسعد الحريري باعوا الانتفاضة؟ يجيب عطالله «برأيي حاولوا إيقاف المواجهة عند حدود الخروج السوري من لبنان. بينما نحن متفقون على إسقاط السلطة كاملة. هناك أطراف بيننا اعترضوا على مقولة إسقاط لحود فاستبدلنا العبارة بإسقاط السلطة كاملة. واتفقنا سراً ليلة استشهد الشيخ رفيق أن يقرأ وليد جنبلاط البيان وحين يقول: إسقاط السلطة نصفق جميعنا. وهذا دليل على موافقة الجميع». ويستطرد بالقول «دود الخل منو وفيه».
التحالف الرباعي كان أشبه «بالشعرة التي قصمت ظهر البعير». «لم يتخيل أحد التأسيس لعلاقة انتخابية تحالفية بين أهل الدم والثنائي الشيعي. وبعد الدوحة قلت لهم – يضيف عطالله – عقدتم اتفاقاً مع مجرم ضربكم».
جنرال بيروت
الياس الزغبي، كان شاهداً آخر على «نحر» انتفاضة الأرز. فهل للجنرال الآتي من فرنسا بعد إبعاد دور في ذلك؟ يجيب «كانت مناسبة 14 آذار 2005 اختباراً أول لمدى صدقية العماد ميشال عون وتياره والتزامهما العنوان التاريخي الذي أطلقاه: سيادة حرية استقلال. في الحقيقة، لم يكن العماد عون، من منفاه الباريسي، متحمساً لإطلاق ثورة الأرز أو انتفاضة 14 آذار، على الرغم من الوفود التي زارته بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري (منهم جبران تويني وفارس سعيد ومروان حمادة). وكانت الوفود تعود بشيء من الإحباط أو الشك حول حقيقة موقفه من كل التحضيرات لثورة الأرز».
كان الزغبي ناطقاً في لبنان باسم جنرال باريس ويقول «كان التيار يعتبرني وكأني جنرال بيروت مقابل جنرال باريس. وقد لمستُ في ذاك الحين أن هناك تباطؤاً في الانخراط بالحركة حين بدأت تجمعاتها الشعبية في ساحة الحرية. كنا سبعة أشخاص نمثل قيادة «التيار الوطني الحر» في بيروت (الياس الزغبي وجبران باسيل وآلان عون وحكمت ديب وعبدالله خوري وفادي بركات ونديم لطيف. وكان عضواً ثامناً يمثل الطلاب هو أنطوان خوري حرب).
«مرّت ثلاثة أيام على الانتفاضة الشعبية ولم تأتنا أي إشارة من العماد عون للمشاركة». يقول الزغبي هذا ويزيد «كانت هناك حماسة من ناشطين في «التيار» بادروا شخصياً إلى الالتحاق بتلك الليالي الشعبية. وهذا ما أثار تساؤلاتي، فبادرتُ إلى الاتصال هاتفياً بالعماد عون ناقلاً إليه حقيقة ما يجري، وكيف أن الرأي العام التياري يتساءل عن عدم مشاركتنا الرسمية على مستوى القادة في النشاطات. أجابني عون: بادر إلى الاتصال بأعضاء القيادة في بيروت واعقدوا اجتماعاً قرروا فيه المشاركة. فعلت. وقررنا النزول كوفد من القيادة إلى ساحة الحرية للمشاركة. أتذكر أن الياس عطالله هو من كان يدير الخطابات على المنبر، فأبدى ترحيباً حاراً بوصولنا ودعاني شخصياً لإلقاء كلمة. وحين حاولتُ الصعود إلى المنبر أسرع اثنان من الوفد لمنعي بحجة التريث». من هما؟ من كانا؟ ألحّينا فأجاب الزغبي «جبران (باسيل) وحكمت (ديب)».
الحلف الرباعي والشريك المضارب
ماذا كان يريد الجنرال عون بالتحديد وهو الذي «يُطبّل» أنه أبو الصبي في 14 آذار؟ يجيب الزغبي «يبدو أنه بعد اتصالي شعر بالحرج فقَبِل أن نشارك لكنه أعطى تعليمات أخرى إلى آخرين بعدم المشاركة.
مارس العماد عون نوعاً من ازدواجية الموقف السياسي. فهو من جهة مرتبط، في العمق، باتفاقيات وتفاهمات مع قوى 8 آذار، خصوصاً فريق إميل لحود و«حزب الله»، ومن خلالهما مع السوريين وإن خرجوا من لبنان. ومن جهة ثانية أراد أن يحافظ على الصورة التي نسجها تحت عنوان: حرية وسيادة واستقلال. هذه الازدواجية لم تدم طويلاً وظهر ذلك في الانتخابات النيابية في أيار 2005، وكان قد أسقط كل محاولات 14 آذار للتحالف.
وكان موفدا 14 آذار غطاس خوري ومروان حمادة يقصدان الرابية، مقرّ إقامته، بشكلٍ يومي لعرض أسس التحالف لكنه كان يجد في كل عرض سبباً أو شرطاً لا يناسبه. هو كان يسعى إلى تحالف ضمني مع «حزب الله» ومخابرات إميل لحود وفلول المخابرات السورية. وقد استغلّ مناسبتين كبيرتين لتحقيق اختراقات واسعة في الانتخابات هما: أولاً، زيارته التوظيفية الاستثمارية للدكتور سمير جعجع في سجن وزارة الدفاع لإثارة التعاطف المسيحي.
ثانياً، استغلال ما عرف بالاتفاق الرباعي بطابعه الإسلامي وقد نجح في المسألتين معاً، محققاً 21 نائباً. فعلياً، كان العماد عون الشريك الخامس المضارب في الاتفاق الرباعي، بمعنى أن «حزب الله» حجب عنه الأصوات في دائرة بعبدا فقط ومنحه كل أصواته في الدوائر الأخرى مثل جبيل وزحلة وبعلبك وجزين…».
بعد ولادة التحالف الرباعي، هل ما فعله ميشال عون كان سبباً آخر لتشلّع جسد 14 آذار؟ يجيب الزغبي «لم يكن التفكك ناتجاً عن الاتفاق الرباعي بحدّ ذاته، لأنه في عمقه كان محاولة لاحتضان الطائفة الشيعية، وتحديداً «حزب الله» بعد خروج الرعاية السورية. أما مسؤولية خروج ميشال عون فليست صحيحة لأن مشاركته لم تكن فعلية ولا ذات أهمية. ولم تعدو كونها ضمن حالة الازدواجية. وبالتالي خروج عون لم يكن سبباً في ضعف وانهيار 14 آذار كما ان الاتفاق الرباعي كان سببه إنسانياً ووطنياً».
نسمع من الياس الزغبي عن أمس، في 2005، ما نسمعه اليوم في آذار 2025، عن احتضان وتنازلات مطلوبة لشريك ضعيف متأثر ندوبه كثيرة. لكن، ما حدث في حينه أن ذاك الحلف بدا أشبه بمكيدة بحقّ المسيحيين… يقاطعنا الزغبي بالقول «السبب الرئيسي لتفكك انتفاضة الأرز هو الخلافات السياسية وحسابات شخصية خرجت عن المعنى الوطني والتاريخي لثورة الأرز. خرج وليد جنبلاط وحركة التجدد… ما جعل 14 آذار وكأنها أصبحت حكراً على القوى السيادية الأساسية التي كانت موجودة قبل اغتيال رفيق الحريري، أي «القوات اللبنانية» و«الكتائب» و«الأحرار» وبعض الفاعليات الإسلامية التي استمرّت على التزامها. لكن، برأيي، 14 آذار هي روح لا جسد. الجسم قد يتفكك لكن الروح تبقى».
هناك أسباب جعلت ميشال عون لا يجد نفسه في 14 آذار «السلطة أحد الأسباب. فهو، بحسب الزغبي، رأى أن حظوظه في الرئاسة ستبقى قليلة ضمن هذا الفريق لأن الطامحين كثرٌ. في المقابل تبيّن له أنه سيكون الأول دائماً لدى فريق 8 آذار».
أديناور لا هتلر
«التيار الوطني الحرّ» يشارك سنوياً في المناسبة، في 14 آذار، ويحكي عن أمجاده موزعاً شهادات حيث يشاء… ما رأي مسؤول إعلامه السابق؟ يجيب «هو يحتفي بذكرى إعلان نفسه رئيس الحكومة العسكرية وبداية حرب التحرير ضدّ الجيش السوري في 14 آذار 1989. يحتفل من دون أي إشارة إلى جوهر المناسبة وكأنها غامضة لا أب لها ولا أم. وحين يتحدث عن سوريا يدّعي أنه فعل ذلك بعد خروج نظام الأسد من لبنان، كما حال المصالحة بين فرنسا وألمانيا. ويتقصد أن لا ينتبه إلى أن المصالحة بينهما لم تكن بين فرنسا وهتلر بل بين شارل ديغول وكونراد أديناور».
إذا لم يكن عون مسؤولاً عن تفخيخ 14 آذار ولا التحالف الرباعي ولا الحسابات الشخصية ولا ولا… فمن المسؤول؟
من سمى هدير الناس في الساحة «انتفاضة الاستقلال» كان حكمت العيد (من حركة اليسار الديمقراطي) ويقول الياس عطالله «المسيحيون سموها ثورة الأرز. وهناك من سماها انتفاضة لا ثورة. أما نحن فأردنا تسميتها انتفاضة الدستور لأن أهم ما فعله السوري هو إلغاء دور الدستور.
قبل عشرين عاماً، في مثل هذا اليوم بالذات، مرّت لحظة رائعة. وبعد مرور لحظات بدأ الكلام عن انقسام الثورة على نفسها. و«كل بيت ينقسم على نفسه يخرب». فمنذ اندحر الجيش السوري من لبنان، في نيسان 2005، بدا وكأن الثورة قدمت معموديتها وانتهت.
قوى الرابع عشر من آذار لا تُحسد طبعاً على مراحل الآلام التي مرت فيها، وهي، على الرغم من حالات الانسحاب المتتالية التي واجهتها لأسباب مختلفة، كانت تتعرض دائماً إلى ما يُشبه القصف الإعلامي والسياسي وحتى الشخصي الذي تجسد بالاغتيالات التي طالت كثيراً من رجالاتها ومحركيها. وأتت غزوة بيروت في 8 أيار.
وذهب الشيخ سعد الحريري إلى شعار: ربط النزاع. 14 آذار مصيبتها أنها في كلِ مرّة، بعد كل انتصار كبير، تعود وتتراجع في منتصف الطريق تحت ألف حجة وحجة. اليوم، على عكس كل ما يقال، روح 14 آذار حاضرة. فهل تفوّت فرصة بناء لبنان الجديد من جديد؟ الياس عطالله يقول: قلت لصديقي نواف (سلام): أنا عشت، في 14 آذار، مرارة تفويت الفرصة. فرجاءً لا تفوتوا الفرصة الثانية اليوم».