
20 عاماً على “سرقة” الثورة: هل نخسر الفرصة الجديدة؟
في الـ 14 من مارس (آذار) 2005، خرج اللبنانيون في أكبر انتفاضة شعبية للمطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال مما أدى إلى انسحاب الجيش السوري بعد ثلاثة عقود من الهيمنة، غير أن هذا الانتصار سرعان ما تبخر بسبب التحالفات السياسية الخاطئة وأبرزها “التحالف الرباعي” الذي منح “حزب الله” شرعية سياسية، في حين تعرض رموز “14 آذار” لاغتيالات متتالية، وبعد 20 عاماً تكون لحظة تغيير جديدة لاستعادة سيادة لبنان.
في مثل هذا اليوم قبل 20 عاماً، شهدت بيروت أعظم ملحمة شعبية في تاريخ لبنان الحديث، فقد كان الـ 14 من مارس (آذار) 2005 يوماً خرج فيه اللبنانيون من كل الطوائف والمناطق إلى قلب العاصمة رافعين علماً واحداً وهاتفين بصوت واحد “حرية، سيادة، استقلال”.
اجتمع ما بين 1.5 مليون إلى مليونين من اللبنانيين في ساحة الشهداء مطالبين برحيل الاحتلال السوري الذي جثم على صدر لبنان ثلاثة عقود، رافضين هيمنة “حزب الله” وميليشياته التي كانت بدأت ترسيخ نفوذها في البلاد تحت غطاء ما يسمى بـ “المقاومة”.
وكانت انتفاضة “14 آذار” الرد المباشر على تظاهرة “8 آذار” حين خرج “حزب الله” وحلفاؤه تحت شعار “شكراً سوريا”، في مشهد استفز اللبنانيين إذ رأوا فيه تحدياً صارخاً لإرادتهم الوطنية.
كان يوم “14 آذار” لحظة فرز تاريخية رسمت خطاً واضحاً بين أكثرية لبنانية ساحقة أرادت التحرر من وصاية دمشق وطهران، وبين أقلية فضلت البقاء في كنف الاحتلال والتبعية الإقليمية.
سرقة الحلم
كان ذلك اليوم تجسيداً للأمل الذي انتظره اللبنانيون طويلاً لكن هذا الحلم لم يكتمل، فعلى رغم نجاح الانتفاضة في تحقيق مطلبها الأساس بانسحاب الجيش السوري في الـ 26 من أبريل (نيسان) 2005، فإن الحسابات السياسية الضيقة والانتهازية وتخاذل بعض قادة “14 آذار” أسهمت في التراجع عن الأهداف الكبرى للثورة، والنكسة الأولى جاءت مع “التحالف الرباعي” حين تحالف “تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” مع “حركة أمل” و”حزب الله” خلال الانتخابات النيابية تحت ذريعة تجنب الفتنة الداخلية، متجاهلين أن هذا الاتفاق كان بمثابة قبلة الحياة لمشروع “حزب الله” الذي لم يكن ليصمد من دون الدعم السياسي والشرعية التي منحها له هذا التحالف.
ولم يكتف “حزب الله” باستغلال هذا الخطأ بل بدأ مسلسل التصفيات ضد رموز “14 آذار”، فاغتيل جورج حاوي وجبران تويني وبيار الجميل ووسام الحسن ووسام عيد وغيرهم، فيما تعرض الآخرون للتهميش والإقصاء أو الاضطرار إلى التسويات المهينة، ثم جاءت حكومة نجيب ميقاتي عام 2011 التي كرست هيمنة “8 آذار” بعد إسقاط حكومة سعد الحريري، فكان ذلك إيذاناً بانتهاء نفوذ “14 آذار” سياسياً وتحول لبنان إلى ساحة مفتوحة أمام إيران و”حزب الله”.
سقوط الهيمنة
بعد 20 عاماً يبدو المشهد مختلفاً تماماً، فـ”حزب الله” الذي استغل كل الأخطاء والتنازلات ليستولي على الدولة اللبنانية يجد نفسه اليوم في وضع لا يحسد عليه، فالضربة القاسية التي تلقاها في حربه الحالية مع إسرائيل والتدهور الاقتصادي الكارثي الذي أصاب بيئته الحاضنة والرفض الشعبي المتصاعد لهيمنته، كلها عوامل تعيد رسم المعادلة الداخلية وتفتح الباب أمام فرصة تاريخية جديدة.
وتماماً كما كان يوم الـ 14 من آذار 2005 لحظة فارقة، فإن 2025 قد تكون فرصة جديدة لتغيير المسار، والفرق اليوم أن “حزب الله” ليس بالقوة التي كان عليها قبل عقدين، كما أن المزاج الشعبي تغير والتوازنات الإقليمية والدولية لم تعد كما كانت، وهذا الواقع يفرض على اللبنانيين عدم تكرار أخطاء الماضي وعدم الرهان على تسويات وهمية أو انتظار حلول تأتي من الخارج.
“الحشد” الذي لم يكسر
طالما أن الحديث عن أكبر حشد شعبي شهده لبنان فلا بد من استعراض ما شهدناه هذا العام من تجمعات شعبية حاولت من خلالها بعض الأحزاب السياسية تأكيد وجودها الميداني وإظهار أنها لا تزال تتمتع بقاعدة شعبية مؤثرة، ولكن على رغم كل المحاولات بقي الـ 14 من آذار 2005 التجمع الجماهيري الأكبر في تاريخ لبنان، ولم تستطع أية قوى سياسية أخرى حتى الآن كسر الرقم القياسي الذي سجلته تلك الانتفاضة الوطنية.
لقد سعى “حزب الله” منذ أعوام إلى تنظيم حشود شعبية بهدف إظهار أنه القوة الأكبر على الأرض، وأن بإمكانه منافسة الزخم الذي صنعته انتفاضة الاستقلال، وهذا العام حاول الحزب مجدداً تنظيم حشد استثنائي خلال تشييع أمينه العام حسن نصرالله، إلا أن كل المعطيات والتقديرات الميدانية أكدت أن الحشد لم يتجاوز 300 ألف شخص، على رغم كل الإمكانات التنظيمية والدعائية التي سخرها الحزب و”حركة أمل” لإنجاح هذا التجمع.
وفي مقابل هذا الحشد نظم “تيار المستقبل” تجمعاً شعبياً في الذكرى الـ 20 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، إذ دعا رئيسه سعد الحريري أنصاره إلى النزول لساحة الشهداء، لكن الحضور، وفق تقديرات دقيقة، لم يتجاوز 70 ألف شخص، وهو رقم أقل بكثير مما كان عليه المشهد خلال الأعوام السابقة.
كما حاول “الحزب التقدمي الاشتراكي” بقيادة وليد جنبلاط استعراض قوته الشعبية عبر تنظيم حشد في المختارة خلال ذكرى اغتيال كمال جنبلاط، إلا أن التقديرات تشير إلى أن عدد الحاضرين لن يتجاوز 15 ألف شخص، مما يؤكد أن المزاج الشعبي تغير بصورة كبيرة وأن الحشود لم تعد تمثل القوة الضاغطة نفسها كما في السابق.
بين 14 آذار و17 تشرين
وإذا كان لا بد من مقارنة التجمعات الجماهيرية في تاريخ لبنان الحديث فإن الحشد الشعبي الأول والأكبر على الإطلاق كان يوم 14 آذار 2005، إذ قدر عدد المشاركين ما بين 1.5 مليون إلى مليونين شخص، أما الحشد الشعبي الثاني في تاريخ لبنان من حيث الحجم والزخم فكانت انتفاضة الـ 17 من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، حين نزل ما بين 800 ألف إلى مليون شخص إلى الشوارع في مختلف المناطق اللبنانية للمطالبة بإسقاط المنظومة السياسية الفاسدة التي تهيمن على الدولة منذ انتهاء الحرب الأهلية.
كانت انتفاضة “17 تشرين” 2019 امتداداً لروح “14 آذار” 2005، ولكنها كانت أكثر شمولية فلم تقتصر على مطلب السيادة والاستقلال، بل رفعت شعار التغيير الجذري لكل الطبقة الحاكمة، بما فيها الأحزاب التي كانت جزءاً من تحالف “14 آذار” سابقاً، والتي لم تفعل شيئاً يذكر لإنقاذ البلاد من انهيارها.
واليوم وبينما يحاول “حزب الله” وحلفاؤه استعراض قوتهم، تؤكد كل الأرقام والمعطيات أن “14 آذار” لا يزال اليوم المفصل في تاريخ الحشود الشعبية في لبنان، ولم يتمكن أي طرف سياسي من تجاوزه أو تكراره، وما لم ينجح فيه الحزب طوال عقدين من الزمن، على رغم محاولاته المستمرة، لن ينجح فيه الآن، لأن الوعي الشعبي تغير والمعركة باتت أعمق من مجرد استعراضات ميدانية، بل باتت معركة استعادة لبنان من قبضة الهيمنة والفساد.
الفرصة الأخيرة
إذا كانت انتفاضة “14 آذار” 2005 قد أُجهضت بسبب سوء الحسابات، فإن الفرصة اليوم لا تزال قائمة وسقوط “حزب الله” ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب وعياً شعبياً وسياسياً وإرادة صلبة لمواجهة مشروعه الإيراني بوضوح وحزم، والمطلوب ليس مجرد تجمع جماهيري كما في عام 2005، بل مشروع وطني متكامل يضع حداً نهائياً لسيطرة السلاح غير الشرعي ويعيد لبنان لعمقه العربي والدولي.
في الـ 14 من آذار 2005 خرج اللبنانيون ليطالبوا بدولة حرة سيدة مستقلة، واليوم بعد 20 عاماً والمعركة لم تنته، وربما لم يتحقق الحلم بالكامل، وربما خسر اللبنانيون معركة لكن الحرب على مصير لبنان لا تزال قائمة، فإما أن يقتنصوا الفرصة الجديدة وإما أن ينتظروا 20 عاماً أخرى أو ربما أكثر لحلم قد لا يعود.