
الاستحقاق البلدي: امتحان اللامركزية والشفافية
“البلديّة، معركة عائليّة”، كم مرّة سمعتم هذه العبارة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي البلدي؟ فللغالبيّة، واضحة هي، صورة المعركة البلديّة في المناطق اللبنانية، كما هي شائعة أدوار المجلس البلدي و”الريّس” على هذا المجلس. هو “الريّس” المحاط بالمهنّئين و”الممجّدين”، وله تكرّس الصفوف الأماميّة في العيد. وإذا كان نشيطاً بالنسبة إلى أهل قريته، يكون برع بالتنقّل بين “تزفيت الطريق” و”وساطة لقريب”، مجلسه أوصل المياه إلى حيّ من هنا، وجمع النفايات في حيّ آخر من هناك. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أنّ مسؤوليّة “الريّس” ومجلسه أكبر بكثير من وليمة في العيد، زبالة، زفت وتمجيد.
آخر انتخابات بلدية شهدها لبنان كانت في 2016، ومنذ ذلك الحين، تأجّلت الاستحقاقات ثلاث مرّات، في البداية تحت ذرائع مالية، لكن في الواقع، كان السبب سياسياً بامتياز. لم يكن القرار المالي سوى غطاءٍ لحسابات تتعلّق بمن يربح ومن يخسر، وكيف سيُعاد خلط الأوراق في ظل متغيّرات كبيرة عاشها لبنان منذ 2019. في المرة الثالثة، كانت الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” السبب الرسمي للتأجيل، لكنها لم تُخفِ التحدي السياسي للانتخابات البلدية في لبنان، في ظل التوازنات الجديدة التي ستسبق الانتخابات النيابية المقبلة.
وبينما تُحبس الأنفاس قبيل المعركة المرتقبة، ستتوجّه الأنظار إلى طريقة إجراء الاستحقاق الانتخابي الأوّل في عهد رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، كما إلى دور البلديّات في المرحلة الانتقالية التي يعيشها لبنان، إضافةً إلى تحديّات جمّة ستواجهها.
لطالما حُصر دور البلديات في لبنان بالخدمات اليومية، حتى بات يُقال إن البلدية هي فقط “زبالة وزفت”. لكن، ماذا لو مارس المجلس البلدي كامل صلاحياته كما ينصّ عليها القانون؟
وفق المرسوم الاشتراعي 118/1977، يحقّ للبلديات تنفيذ مشاريع تنموية كبرى، مثل بناء المدارس والمستشفيات، لكن ضمن ضوابط محددة، كالتنسيق مع الوزارات المختصة وتمويل المشاريع، إما من الميزانية البلدية، أو عبر هبات ومساعدات.
يمكن للبلديات أيضاً الاستثمار في مجالات غير رائجة كثيراً، مثل إنشاء مراكز تدوير النفايات، بناء مسارح ثقافية، تطوير وسائل محلية للنقل العام، أو حتى وحدات سكنية بأسعار مدروسة تلبّي حاجات سكان المنطقة.
قانونياً، بإمكان البلديات أيضاً توليد الكهرباء محلياً، بحسب قانون الطاقة المتجددة الموزعة رقم 318، هو الذي يسمح للقطاع الخاص بإنتاج وبيع الطاقة المتجددة بكميات تصل إلى 10 ميغاواط، ما يفتح الباب أمام حلول بديلة محليّة في ظل أزمة الكهرباء المستمرة مركزياً.
إضافةً إلى العقليّة التقليديّة التي قد تعيق تلك الإنجازات، يبرز تحدّي تأثير السلطة المركزيّة على القرار المحلّي من جهة، وصعوبة تأمين الاعتمادات المالية من جهة أخرى.
في هذا السياق، يؤكد المدير التنفيذي لـ “جمعية الشفافية الدولية” في لبنان، جوليان كورسون، أن بإمكان البلديات أن تكون عنصر تحوّل حقيقي في البلاد، إذا خرجت من نمط الإدارة التقليدي، وعرف كل مسؤول دوره الحقيقي. ويوضح أن المجالس العتيدة لديها فرص كبيرة لإنجاز مشاريع إنمائية كبرى، خصوصاً في المرحلة المقبلة.
واحدة من النقاط الأساسية التي يلفت إليها كورسون، هي العلاقة بين البلديات والانتشار اللبناني، مشدداً على أن المغتربين يمكن أن يكونوا داعماً أساسياً ليس فقط مالياً، بل أيضاً لوجستياً من خلال نقل الخبرات وتقديم الاستشارات في مجالات التنمية المحلية.
وهنا يشير كورسون إلى أن المجالس البلدية، بحاجة إلى تطوير منصات تعرض فيها كل تفاصيل حركتها المالية، من أجل إظهار شفافيّتها، ما يعزز الثقة مع الجهات المانحة والجمعيات التنموية، وبالتالي تتّسع رقعة التعاون بين المجتمع المحلّي والجمعيات الأهليّة ما يساعد في إنجاز المشاريع التي تتأخّر عادةً جرّاء الهيمنة المركزيّة.
كورسون أشار إلى إصلاح وُضع على السكّة في الفترة الأخيرة، مع دخول قانون الشراء العام حيّز التنفيذ في صيف 2022، ومعه لم يعد هناك مجال لعقود بالتراضي والصفقات المشبوهة، وبالتالي ستكون البلديات الجديدة أمام معايير واضحة لإدارة المناقصات وضمان حسن تنفيذ المشاريع عند شراء أي خدمة أو سلعة بحاجة إليها.
بعقليّة تواكب تطوّرات العصر، وحاجات المناطق، على الانتخابات البلدية المقبلة أن تدار، فهي ليست مجرد معركة بين العائلات والمرشحين التقليديين، بل هي استحقاق سيحدّد مستقبل التنمية المحلية في لبنان، ومدى إمكانيّة تحقيق الإنماء المتوازن فعلياً كما ينصّ عليه الدستور اللبناني، وذلك في ظلّ تصاعد الحديث عن تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، وإقرار رئيس الحكومة نواف سلام بأن لا لامركزية حقيقية من دون لامركزية مالية. وفي هذا السياق، تأتي الانتخابات البلدية لتشكّل امتحاناً أساساً في مسار تعزيز اللامركزية الإدارية والمالية، حتّى إقرارها بقانون في المجلس النيابي.
تمتاز هذه الانتخابات بأهمية كبرى أكثر من أي وقت مضى… جميل أن يكون “الريّس” قريباً من “الضّيعة”، لكن الأهمّ الّا يكون بعيداً عن دوره الفعلي.