مزارع حشيشة: تشريعها خطوة إيجابية هل يعيد إقرار مراسيمها التنظيمية المطلوبين والمزارعين إلى كنف الدولة؟

مزارع حشيشة: تشريعها خطوة إيجابية هل يعيد إقرار مراسيمها التنظيمية المطلوبين والمزارعين إلى كنف الدولة؟

الكاتب: عيسى يحيى | المصدر: نداء الوطن
6 آذار 2025

على مدى عقود، لم تكن زراعة الحشيشة في لبنان مجرد نشاط زراعي محظور، بل شكّلت عماداً اقتصادياً رئيسياً لشريحة واسعة من المزارعين والتجار، خصوصاً في مناطق البقاع الشمالي. فقد وفّرت هذه الزراعة مصدر دخل ثابت في ظل أزمات اقتصادية متعاقبة، وفرضت نفسها كخيار شبه وحيد أمام مجتمعات أنهكها التهميش وغياب البدائل الزراعية المجدية. وبينما تعاملت الدولة مع هذه الزراعة من منظور أمني وقانوني، نظر إليها المزارعون والتجار كوسيلة للبقاء ومواجهة الواقع الاقتصادي القاسي، ما جعلها مع مرور الوقت جزءاً من معادلة اقتصادية واجتماعية يصعب تجاوزها دون حلول جذرية تأخذ بعين الاعتبار واقع من ارتبطت أرزاقهم بها.

 الحشيشة بين التاريخ والواقع

تعدّ محافظة بعلبك الهرمل المركز الرئيسي لزراعة الحشيشة في لبنان. وتنتشر هذه الزراعة على مساحات شاسعة من سهول البقاع الشمالي، مستفيدةً من المناخ الملائم والأراضي الخصبة. ويعود تاريخ هذه الزراعة إلى أكثر من قرن، حيث  بدأت تنتشر في عهد المتصرفية العثمانية، لكنها شهدت ازدهاراً غير مسبوق خلال الحرب الأهلية، حين تراجع نفوذ الدولة، ما سمح بتوسع زراعتها وتزايد الاتجار بها، حتى أصبحت جزءاً أساسياً من اقتصاد المنطقة.

شهدت المساحات المزروعة بالحشيشة، أو ما يعرف بنبتة الكيف في بعلبك الهرمل، تقلّبات متعدّدة تبعاً للظروف السياسية والأمنية، ففي تسعينيات القرن الماضي، وبعد انتهاء الحرب الأهلية، أطلقت الدولة اللبنانية حملات أمنية واسعة لمكافحة هذه الزراعة، ما أدى إلى تراجعها لفترة. لكن غياب البدائل الاقتصادية، وضعف سياسات التنمية، أعادا إنعاشها في العقدين الأخيرين.

ووفق تقديرات غير رسمية، تتراوح المساحات المزروعة سنوياً بين 30 و40 ألف دونم في عدد من البلدات البقاعية، وتزداد هذه المساحات أو تتراجع وفقاً لعوامل مختلفة، مثل تشديد أو تخفيف القبضة الأمنية، ومستوى الطلب المحلي والدولي، وظروف المناخ.

رغم المحاولات الرسمية للقضاء على زراعة الحشيشة، لا تزال تشكّل جزءاً أساسياً من اقتصاد بعلبك الهرمل لعدة أسباب منها: العائدات المالية المرتفعة مقارنةً بالزراعات البديلة مثل القمح والشعير، ضعف التنمية وغياب المشاريع الإنتاجية ما يجعل الحشيشة الخيار الأكثر ربحية، طلب السوق المحلي والدولي حيث تُهرّب كميات كبيرة إلى الخارج، خصوصاً إلى أوروبا ودول الخليج، وأخيراً التعقيدات الأمنية والسياسية، إذ ارتبطت هذه الزراعة بشبكات نفوذ محلية ودولية تجعل مكافحتها عملية صعبة.

بين التجريم والقوننة

مع تصاعد الأزمات الاقتصادية في لبنان، والأحداث الأخيرة التي رافقت التطورات الداخلية والخارجية، عاد الحديث مجدداً عن قوننة زراعة الحشيشة لأغراض طبية وصناعية. وبعدما أقرّ البرلمان قانوناً بهذا الشأن عام 2020، لا يزال تطبيقه معلقاً بسبب غياب إقرار المراسيم التنظيمية. وبينما يرى البعض في تشريع الحشيشة فرصة لتحويل هذه الزراعة إلى قطاع قانوني مربح، يرى آخرون أنه لن يكون بديلاً حقيقياً ما لم يترافق مع خطط تنموية توفر بدائل اقتصادية لأبناء المنطقة.

شكلت زراعة الحشيشة على مدى الحقبة الماضية أحد الأسباب الرئيسية في الصراع بين أبناء المنطقة والدولة. وتحوّلت في كثير من الأوقات إلى نزاع مسلح أوقع ضحايا من القوى الأمنية وأبناء العشائر، ووضع كثيرون على لائحة المطلوبين للدولة بتهمة الزراعة والاتّجار، ويرى كثر أن تشريع زراعة الحشيشة في لبنان قد يساهم جزئياً في إعادة بعض المطلوبين والمهربين إلى كنف الدولة، لكنه ليس حلاً سحرياً.

وفق مصادر عشائرية، يعتمد الأمر على كيفية إدارة هذا التشريع وتطبيقه. فإذا تم تقنين الزراعة ضمن إطار قانوني واضح يسمح للمزارعين بالاستفادة من العائدات بشكل شرعي، مع توفير منافذ قانونية للتصدير أو التصنيع الطبي، فقد يدفع ذلك بعض المزارعين والتجار إلى ترك السوق السوداء والانخراط في الاقتصاد الرسمي، لكن المشكلة لا تقتصر فقط على التشريع، بل تتعلق أيضاً بالبنية التحتية للدولة والفساد، وإمكانية تطبيق القوانين بعدالة.

هناك المطلوبون الكبار والمتورطون في التهريب عبر الحدود. قد تكون لديهم مصالح أوسع من مجرد الزراعة، مثل شبكات التهريب والاتجار الدولي، وبالتالي قد لا يجدون مصلحة في التحول إلى العمل القانوني. لذا، فإن نجاح تشريع الحشيشة يعتمد على إعادة هؤلاء إلى الدولة ويتطلب سياسة أمنية واقتصادية متكاملة تشمل إجراءات تحفيزية لمن يلتزم بالقانون، مثل إعفاءات أو دعم للمزارعين، وملاحقة فعلية لمن يواصل العمل في السوق السوداء، كذلك خلق بدائل اقتصادية في المناطق التي تعتمد على زراعة الحشيشة، حتى لا يكون هناك دافع للاستمرار في التهريب غير الشرعي.

نجاح التشريع وسياسة الدولة

وحول تشريعها واستفادة المزارعين في البقاع، يقول م. ش. وهو أحد المزارعين لـ «نداء الوطن»: «أنا مزارع من بعلبك الهرمل، ورثت زراعة الحشيشة عن أبي وجدي، كما ورثوها عن أجدادهم، ومنذ كنت صغيراً، كنت أرافق أبي إلى الأرض في بداية الصيف، حين نحرث التربة ونجهّزها لاستقبال البذور. كنا ننتظر الشتاء ليغسل الأرض، ثم نعود في الربيع لنزرع الحشيشة. في صغري، كانت الدولة تأتينا أحياناً بجرافاتها لتدمير المحصول، لكن كنا نعرف كيف نخفي جزءاً منه. كانوا يأتون قبل الحصاد بأسابيع، فيضيع علينا تعب سنة كاملة. لكن في بعض السنوات، كان الوضع مختلفاً، إذ كان هناك مسؤولون “يغضّون النظر”، أو بالأحرى، يتقاسمون الأرباح مع الكبار من مزارعينا».

ويضيف: «في أيام الحرب، لم يكن أحد يقترب منا، لا الدولة ولا غيرها، كنّا نزرع ونحصد بحرّية، والتجار يأتون إلينا مباشرة لشراء المحصول، وكانت أموالنا بالدولار. كنا نعيش في عزّ، نبني البيوت، نزوّج أولادنا، ونرسل بعضهم للدراسة في الخارج. لكن بعد الحرب، تغيّر كل شيء. في التسعينيات، جاءوا ليقضوا على زراعتنا بحجة التنمية البديلة، وعدونا بالقمح والشمندر السكري، لكن المشروع سرعان ما فشل بسبب غياب الدعم، وبقينا مزارعين بلا محصول، حتى عدنا للحشيشة من جديد، لكن بأساليب أكثر حذراً».

وأشار الى «أن السنوات الأخيرة كانت الأصعب، فالأسعار تراجعت، والأسواق ضاقت، والملاحقات الأمنية زادت، ومع الأزمة الاقتصادية، بتنا نبيع المحصول بثمن بخس، ولا نجد سوقاً مضمونة. ومنذ أعوام ونحنا نسمع أن الدولة تريد تشريع الزراعة، لكن من سيستفيد؟ هل سيكون لنا مكان في السوق؟ أم أن الشركات الكبرى ستحتكر كل شيء؟ أنا لا أزرع الحشيشة حباً بالمخاطرة، بل لأن لا بديل لديّ، وإذا أرادت الدولة أن تغيّر هذا الواقع، فعليها أن تعاملنا كشركاء، لا كخصوم، فالأرض لنا ونحن أعرف بها، لكننا لا نريد أن نبقى خارج القانون إلى الأبد».

وتابع: «إن إقرار المراسيم التنظيمية وتشريع زراعة الحشيشة خطوة إيجابية ولكنها محفوفة بالتحديات، فمن جهة، يمنحني التشريع إطاراً قانونياً يحميني من الملاحقات الأمنية ويتيح لي بيع المحصول بشكل مشروع، ما يعني استقراراً اقتصادياً لي ولعائلتي، وفرصاً للاستثمار في تحسين الإنتاج. لكنه، من جهة أخرى، يطرح تساؤلات حول آليات التطبيق، والأسعار التي ستفرضها الدولة، ومدى قدرة المزارعين الصغار على منافسة الشركات الكبرى التي قد تدخل السوق.

أما في ما يتعلق بالتهريب، فقد يحدّ التشريع منه جزئياً، لكنه لن يقضي عليه تماماً، فطالما أن الأسواق الخارجية، لا تزال تطلب الحشيشة غير القانونية، فسيظل هناك دافع للتهريب، إلا إذا كانت الدولة قادرة على احتكار الإنتاج والتسويق بشكل فعّال، وتقديم أسعار تنافسية تُغري المزارعين بالالتزام بالسوق الشرعي».

أما بالنسبة للعشائر البقاعية، فأكد «أن الأمر يتوقف على كيفية تعامل الدولة مع الملف، إذا كان التشريع مصحوباً بتنمية حقيقية للبقاع، وتأمين بدائل اقتصادية وفرص عمل، فقد تعود بعض العشائر إلى كنف الدولة، وبخاصة أن الكثير منها لجأ إلى زراعة الحشيشة كخيار اقتصادي لا كتمرد على القانون. أما إذا اقتصر الأمر على تشريع نظري دون آليات واضحة، فستظل الدولة بنظرهم خصماً أكثر منها شريكاً، ونجاح التشريع يتوقف على جدية الدولة في تنظيمه، وعلى استعدادها لإشراك المزارعين في القرار، بدلاً من فرضه من فوق».

من جهته يقول الخبير الدستوري والقانوني الدكتور جهاد اسماعيل لـ «نداء الوطن» من الثابت أن قانون رقم 178/ 2020، وهو قانون ترخيص زراعة نبتة القنب الهندي للاستخدام الطبي والصناعي، يترك في المادة 36 منه، إصدار المراسيم التطبيقية اللازمة لتنفيذ أحكام هذا القانون بعد موافقة مجلس الوزراء خلال ستة أشهر من تاريخ صدوره، وهي مراسيم تنفيذية تنشأ، عادةً، عندما يترك القانون للحكومة مهمة إصدار التنظيمات المتممة له أو تنظيم أحد موضوعاته، بحيث تضيف هذه التنظيمات الأحكام أو القواعد التي لا بد من اعتمادها لإكمال القانون أو لجعله كاملا، مما يعني أن عدم صدورها يُبقي القانون، كلياً أو جزئياً، معلّقاً، في حين أن الحكومة امتنعت، اعتباطياً، عن تنفيذ الالتزام خلال مهلة قانونية لا يجوز تجاوزها. ما يعزّز هذا المنحى من التحليل أن هذا القانون يُلزم إنشاء هيئة ناظمة لزراعة نبتة القنب الهندي للاستخدام الطبي والصناعي تتولى صلاحية الرقابة والترخيص للمنشآت والعمليات المنصوص عنها في هذا القانون وكذلك السهر على تطبيق هذا القانون، مما يعني أن عدم تشكيل هذه الهيئة يُبقي القانون معطلاً، في حين الفقرة الثانية من المادة 65 من الدستور تلزم الحكومة في السهر على تنفيذ القانون، وهو أمرٌ يجيز لمجلس النواب اتهام رئيس الوزراء والوزراء عن إخلالهم بالواجبات المترتبة عنهم ليصار الى محاكمتهم أمام المجلس الأعلى، وإن صاروا من عداد السابقين أو المستقيلين، ذلك أن المادة 72 من الدستور تشير إلى أن استقالة رئيس أو أعضاء الحكومة ليست سبباً لعدم إقامة الدعوى عليهم». أمّا آلية اقرار المراسيم التطبيقية فتكون وفق المادة 65 من الدستور لجهة التئام مجلس الوزراء بأكثرية ثلثي أعضائه، واتخاذ القرار توافقياً، وإذا تعذّر ذلك فبالتصويت بأكثرية الحضور لا الثلثين ما دام أن هذا النوع من المراسيم ليس من المواضيع الأساسية الواردة في الفقرة الاخيرة من المادة 65 من الدستور، حيث تحدّد بيان كيفية التنفيذ وبالتالي طرق تطبيق القانون وإبراز أحكامه إلى حيز الوجود.

في المحصلة، فإن تحسّن علاقة المزارعين مع الدولة يعتمد على كيفية تطبيق التشريع، وليس مجرد إقراره، وإذا كانت الدولة جادّة في إدارة الملف بطريقة عادلة، بحيث يحصل المزارعون على تراخيص بسهولة، ويُباع المحصول بأسعار عادلة، ويُستثمر جزء من العائدات في تنمية المنطقة، فمن الطبيعي أن تتحسن العلاقة بين المطلوبين والمزارعين من جهة، والدولة من جهة أخرى، فالكثير من المزارعين لا يرفضون الدولة من حيث المبدأ، بل يرفضون سياسات التهميش والملاحقات الأمنية التي جعلتهم يشعرون بأنهم في مواجهة دائمة مع السلطة.

وإذا كان التشريع مجرد حبر على ورق، أو احتكرته شركات كبيرة واستُبعد المزارعون التقليديون، فسيشعر هؤلاء بأن الدولة خدعتهم، ما قد يزيد من الاحتقان بدلاً من تخفيفه. وفي حال بقيت الدولة تتعامل معهم بأسلوب أمني فقط، من دون أي خطط تنموية جدية، فلن يتغير شيء. لذلك، يبدو ان تحسّن العلاقة ليس مضموناً، لكنه ممكن إذا كان التشريع جزءاً من رؤية تنموية أوسع تشمل البنية التحتية، والخدمات، والتعليم، وتوفير بدائل اقتصادية حقيقية، وليس مجرد محاولة لضبط الحشيشة قانونياً دون معالجة جذور المشكلة.

في أي حال، تبقى زراعة الحشيشة في بعلبك-الهرمل مسألة شائكة، بين واقع اقتصادي يفرض استمراريتها، وبين رفض سياسات التهميش والملاحقات الأمنية، بالإضافة إلى محاولات رسمية غير ناجحة للقضاء عليها أو تقنينها، في ظل غياب حلول جذرية تعالج أسباب انتشارها، بدلاً من الاقتصار على محاولات مكافحتها بالقوة.