
المساعدات الطبية خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان: مصير مجهول وغياب للشفافية؟
تثير عوامل عدة تساؤلات جوهرية حول “مدى الشفافية في توزيع المساعدات الطبية التي تلقاها لبنان من دول عديدة خلال فترة الحرب الاسرائيلية عليه. وتفتح الباب أمام العديد من الأسئلة العالقة بشأن مصيرها. ويزداد القلق مع امتناع وزارة الصحة العامة عن الاستجابة لطلبات الحصول على المعلومات، مما يقوّض حق الجمهور في المساءلة والمحاسبة”.
حطّت أطنان من المساعدات والهبات رحالها في مطار بيروت، بينها الكثير من الأدوية والمستلزمات الطبية، في خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. وخرجت أصوات عدة تطالب بضرورة اعتماد الشفافية في توزيع المساعدات والتصريح عن الآليات المعتمدة لذلك بشكلٍ واضح.
ومن هذه الأصوات، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وجمعية الشفافية الدولية لبنان- لا فساد وغيرهما. ليست المسألة في الأرقام والبيانات المنشورة فحسب، والتي غاب عنها الكثير من الممارسات الشفافة ومركزيّة البيانات، وإنما أيضا في سبل تطبيق آلية التوزيع والشفافية لضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها.
انطلاقًا من هنا، بدأت رحلة البحث والتقصي لمعرفة كمية الأدوية التي وصلت إلى لبنان وطريقة توزيعها والآلية المعتمدة ومصير الأدوية التي لم تُوزع. وكانت المحطة الأولى وزارة الصحة اللبنانية، حيث قدّمنا طلبا للحصول على المعلومات في تاريخ 8/1/2025 لمتابعة القضية ولكننا لم نحصل على أي ردّ حتى الساعة.
وعليه تم التواصل مع المسؤول الذي تولى هذا الملف في الوزارة. ورغم الإتصالات العديدة لم نتلق أي رد منه تحت أعذار مختلفة، منها “رحلة عمل” و”انتكاسة صحية استوجبت دخوله المستشفى” وضغط في العمل أو عدم الإجابة على الاتصال أصلاً.
وخلال بحثنا ومراجعة جهات مختلفة للحديث أكثر عن آلية توزيع المساعدات الطبية، تبّين أن وزارة الصحة العامة كانت الجهة الوحيدة المعنية بتوزيع الأدوية والمستلزمات الطبية دون سواها، بالتعاون مع مراكز الرعاية الصحية في المناطق.
ثغرات ولا معلومات مفصلة
نشرت وزارة الصحة في 28 كانون الثاني 2025، أي بعد انتهاء الحرب، تقريراً يفيد بأنها وزّعت أكثر من 3 ملايين علبة دواء خلال العدوان الاسرائيلي على مراكز الرعاية الصحية. لكن التدقيق في هذه الجداول يكشف عن ثغرات سنكشفها تباعاً في هذا التحقيق، والتي تدفعنا إلى طرح أسئلة مشروعة عما نشرته الوزارة والأرقام الأخرى التي حصلنا عليها من جهات مختلفة.
وفي ظل غياب المعلومات المفصّلة، حاولنا، “بما تيّسر”، جمع المعلومات عن المساعدات الطبية التي قدمتها دول عديدة إلى لبنان وما صُرف ونُشر على موقع الوزارة وتحليلها، بهدف التأكد من صحة مراقبة الأدوية ومسارها والبحث في مصير الأدوية التي لم توزع أو تخرج أصلاً من المخازن.
في مقلب آخر، نجد على موقع الوزارة رابطًا لجدولين ثالث ورابع يتناولان المساعدات الموزعة على المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية في الفترة الواقعة بين الرابع والواحد والعشرين من تشرين الثاني 2024. ويوثق فيه أسماء المستشفيات وتاريخ الاستلام والجهات المانحة من دون ذكر كمية المساعدات.
122 طناً من المساعدات
بادر العديد من الدول العربية والدولية إلى تقديم الدعم للبنان وشعبه خلال الحرب، وساهمت كل من السعودية، قطر، الإمارات، مصر، الأردن، وتركيا، إلى جانب منظمات دولية مثل برنامج الأغذية العالمي، منظمة الصحة العالمية، واليونيسيف، في تقديم مساعدات عينية أو طبية، تلبيةً للاحتياجات الملحّة للبلاد.
وفي هذا السياق، يتناول المدير التنفيذي لجمعية الشفافية الدولية- لبنان (Transparency International Lebanon – No Corruption) جوليان كورسون مسألة الشفافية في توزيع الأدوية، مسلطاً الضوء على الثغرات التي طاولت آلية اعتماد الشفافية والطريقة التي عرضت فيها المعلومات أمام الرأي العام.
يؤكد كورسون، مستنداً إلى ما تعلنه غالبية المؤسسات العامة في لبنان، لا سيما منها تلك المعنية بالمساعدات، أنها تلتزم نشر كل البيانات والأرقام عبر منصاتها الإلكترونية. إلا أنه يوضح أن هذه الممارسة، رغم صحتها الجزئية، تطرح إشكالية جوهرية تتعلق بالتعريف الدقيق لمفهوم الشفافية ومدى تطبيقه الفعلي.
وفي هذا الإطار، واستناداً إلى عمليات الرصد التي أجرتها “جمعية الشفافية الدولية- لبنان” للمواقع الرسمية اللبنانية، يوضح كورسون أن الجمعية وثّقت ما مجموعه 122 طناً من المساعدات المُقدّمة. غير أن مراجعة الأرقام التي نشرتها وزارة الصحة كشفت عن افتقار آلية النشر إلى الحد الأدنى من معايير الشفافية. فما الأسباب وراء ذلك؟
تساؤلات عن مدى الشفافية في توزيع المساعدات
عند التعمق في الثغرات، يمكن تصنيفها إلى مجموعة من النقاط التي تعكس عدم انسجام الممارسات مع مبادئ الشفافية:
* غياب مبدأ التجزئة على مستويين:
المستوى الأول: عدم تفصيل مصادر المساعدات، اذ لم يتم تحديد الكميات المقدمة من كل دولة بشكل واضح ودقيق.
المستوى الثاني: غياب البيانات المفصلة حول أعداد المساعدات الطبية التي تم تسليمها إلى المستشفيات ونوعيتها، بما في ذلك تفاصيل الاستفادة منها ومصير الأدوية التي لم تُصرف.
* أسلوب نشر البيانات: اقتصرت البيانات على ملفات PDF، مما يجعل من الصعب البحث فيها أو نسخ الأرقام لإجراء التدقيق اللازم.
* تأخير تحديث المعلومات: تم تحديث البيانات كل 10 أيام أو أسبوعين، في حين أن مبدأ الشفافية يقتضي نشر المعلومات في الوقت الفعلي لتمكين الجهات المعنية من ممارسة الرقابة الفعالة.
* مصير المساعدات غير المصروفة: لم تُقدَّم أي معلومات حول المساعدات التي لم يتم توزيعها، كما لم يُكشف عن آلية إعادة هذه المساعدات الى الوزارة والجهة الموكولة اليها مراقبة مسارها.
* اختلاف وحدات القياس: شكلت هذه المسألة عائقاً كبيراً أمام تتبع الكميات وتوزيعها بدقة، إذ تم تسجيل 1803 شحنة مساعدات بوحدات قياس غير موحدة، مما أعاق إمكان المقارنة والتحليل المنهجي للبيانات.
وفي ضوء هذه المعطيات، يؤكد كورسون أن “كل هذه العوامل تثير تساؤلات جوهرية حول مدى الشفافية في توزيع المساعدات، سواء من حيث الكمية أو النوعية. كذلك تفتح الباب أمام العديد من الأسئلة العالقة بشأن مصير المساعدات الطبية. ويزداد القلق مع امتناع الوزارة عن الاستجابة لطلبات الحصول على المعلومات، مما يقوض حق الجمهور في المساءلة والمحاسبة”.
أرقام الهيئة العليا للإغاثة
وفق أرقام جداول الهيئة العليا للإغاثة (التي حصلنا عليها من المحامي علي عباس) للدول التي قدمت المساعدات وقامت الهيئة بتسليمها إلى وزارة الصحة، نرى أن الجداول مقسمة بين أدوية وأدوات طبية وحصص غذائية وغيرها من المساعدات.
وأرسلت أيضاً الهيئة جدولاً نهائياً بكمية المساعدات (بالطن) التي أتت من الجهات المانحة بالأطنان.
عند النظر إلى الأرقام والجداول المرسلة من الهيئة، نرى صعوبة في تحليل هذه الأرقام والتأكد من شموليتها ودقّتها. وهذا يعود الى اختلاف وحدة القياس. وحتى عند العودة إلى المعلومات المنشورة على موقع وزارة الصحة مثلاً، نرى أن وحدة القياس المعتمدة للمساعدات الدوائية هي “علبة دواء”، بينما اعتمدت الهيئة العليا للاغاثة “حبة دواء” وحدة قياس، وهو ما يعقّد عملية تحليل هذه البيانات ومراقبتها.
من ناحية أخرى، نرى أنّ الجدول النهائي للهيئة العليا للإغاثة ذكر 8 دول أرسلت المساعدات إلى لبنان، بينما في الواقع الرقم أعلى بكثير، ما يطرح تحدي لا مركزية المعلومات والبيانات، الأمرالذي يصعّب عملية المراقبة ويطرح العديد من التساؤلات لناحية شفافية المساعدات.
إلى جانب ذلك، هناك بعض المساعدات الطبية التي وصلت إلى جمعيات خاصة وبقيت وقتاً في مرفأ بيروت إلا أننا نجهل كميتها وطرق صرفها، وفق المحامي علي عباس. وقدم بعض الجهات طلب الحصول على المعلومات المطلوبة لتقصي مسار هذه المساعدات وطرق توزيعها.
تتبع المساعدات العينية والطبية في لبنان عملية غامضة ومليئة بالتساؤلات، بخاصة بعد تلقي شكاوى من نازحين لم يحصلوا على الدعم. تولى المحامي علي عباس وزملاؤه التحقيق، فتقدّموا بطلبات رسمية للوصول إلى المعلومات. لكن اللجنة الوزارية امتنعت عن تقديم أي بيانات، ما دفعهم إلى رفع دعوى أمام هيئة مكافحة الفساد.
في المقابل، استجابت الهيئة العليا للإغاثة، وكشفت أنها وزّعت المساعدات ليس عبر اللجنة الوزارية فحسب، انما أيضاً على البلديات والجمعيات الخاصة، بما في ذلك مساعدات طبية محدودة. إلا أن الجداول أظهرت أن وزارة الصحة تسلمت أطنانًا من المساعدات الطبية من دون الكشف عن تفاصيلها أو مصير غير المصروفة منها، ما يثير مخاوف بشأن مصير هذه الأدوية.
مخاوف جدّية و تجارب غير مشجعة
أشار عباس إلى واقعة سابقة تتعلق بشحنة أدوية عراقية وصلت إلى لبنان قبل اندلاع الحرب ولم تُعرف طريقة توزيعها بعد أن تسلمها مجلس الجنوب، معتبراً أن التجارب السابقة تعزز الشكوك الحالية.
وأوضح أنه “بحسب الجداول التي تسلمناها من الهيئة العليا للإغاثة، تبين أن وزارة الصحة تسلمت أطناناً من المساعدات الطبية، إلا أننا لم نتمكن من معرفة تفاصيل نوعية هذه المساعدات أو طرق توزيعها أو مصير الأدوية التي لم تُصرف. هناك مخاوف جدية من احتمال إخفاء بعض المساعدات، لا سيما الباهظة منها، وتخزينها في مستودعات بهدف بيعها لاحقاً في الأسواق أو تهريبها إلى الخارج”.
ولفت إلى أن الهيئة العليا للإغاثة، بسبب ظروف الحرب، تسلمت المساعدات من دون الحاجة إلى مرسوم رسمي، ما أعفى الوزارات المعنية من الإجراءات المعتادة. ويعترف بأن ما تم الكشف عنه حتى الآن يشير إلى وجود إساءة في توزيع المساعدات، بالإضافة إلى استغلال البعض للظروف الاستثنائية للتهرب من دفع الرسوم الجمركية.
تفاوت في المعاناة
شهدت مراكز الإيواء تفاوتاً في مستوى المعاناة، ورغم أنه لا يمكن تعميم جميع الحالات، فإن من الصعب تجاهلها نظراً الى انتشار هذه التجارب في مختلف المناطق اللبنانية. شارك العديد من العاملين خلال فترة الحرب تجاربهم وما واجهوه من تحديات وثغرات تتعلق بالحالة الصحية للنازحين. وأجمعوا جميعاً على أن “معاناة الاستشفاء كانت كارثة أكبر من تأمين الدواء”.
في مركز الحمرا الذي استضاف نحو 1200 نازح خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، لم يواجه المسؤولون أي صعوبة في تأمين الأدوية. ويشرح رئيس المركز فداء قعقور أن مندوب وزارة الصحة كان يتلقى طلبات الأدوية التي نحتاج إليها ليتم تسليمها لاحقاً عبر الصليب الأحمر إلى المركز.
كذلك عملت الوزارات المعنية، لا سيما منها وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية، إلى جانب بلدية بيروت، على تسلم التقارير التي توثق احتياجات النازحين، ورفعها إلى لجنة الطوارئ والصحة، التي تكفلت بدورها تأمين الأدوية اللازمة لمراكز الإيواء.
ويقول قعقور: “كنت أرفع تقريراً (استمارة) بنسختين؛ الأولى إلى وزارة الصحة والثانية إلى بلدية بيروت، لطلب الأدوية المطلوبة. كذلك، قام تجمّع الأطباء في بيروت بإنشاء مستوصف طبي لمعاينة النازحين ومتابعة أوضاعهم الصحية”.
ويضيف أن المركز تلقى أيضاً عرضاً من جمعية “بنين” لتسلم أدوية إيرانية متوافرة في الكرنتينا. وكان لافتاً حجم التضامن الشعبي، اذ وصلت مساعدات طبية من المغتربين في أوروبا تضمنت أدوية للالتهابات، والمحاليل الطبية، وأدوية السكري وغيرها.
ويختم قعقور مؤكداً أنه “بفضل هذه الجهود والتنسيق المشترك، لم نواجه أي مشكلة في تأمين الأدوية أو انقطاعها”.
أما رئيس اتحاد بلديات الشوف يحيى بو كروم، فيقول أن المرحلة الأولى من النزوح كانت صعبة، إذ لم يكن متوقعاً أن يبلغ العدد هذا الحجم. ومع ذلك، نجح اتحاد البلديات في تأمين الاحتياجات الأساسية للنازحين، إلى أن تولّت الجهات المعنية توفير المساعدات العينية والطبية اللازمة”.
ويؤكد أن “المساعدات التي وصلت إلى الدولة وزعت مباشرة على النازحين عبر الجمعيات والفرق المختصة، ولم يصل أي دعم إلى اتحاد البلديات. واقتصر دورنا على تسهيل عمل الجمعيات والتنسيق معها لتلبية الاحتياجات المطلوبة”.
في المقابل، يكشف ربيع سعادة، الذي تولّى متابعة رفع طلبات الأدوية من فريق الإنقاذ إلى لجنة الطوارئ في منطقة دير الأحمر، عن الغياب التام للوزارات المعنية، بما فيها وزارات الصحة، التربية، والطاقة، خلال الأربعين يوماً الأولى من تصاعد الحرب. ويؤكد أن دور هذه الجهات اقتصر على جمع البيانات المتعلقة بأعداد النازحين، من دون أن يُترجم ذلك إلى دعم فعلي على الأرض.
تجارب مختلفة
ويتحدث سعادة عن عدد النازحين الثابتين الذي بلغ نحو 12 ألفاً، والذي كان تضاعف ليصل إلى 25 ألف نازح عندما اشتدت التهديدات الإسرائيلية. ومع ذلك، لا يخفي أنه “واجهنا مشكلة انقطاع الأدوية السرطانية في حين لم نواجه أي مشكلة مع باقي الأدوية”.
من جهته، يؤكد الدكتور أفلاطون الصايغ، وهو طبيب قضاء عاليه، “أنهم لم يتلقوا أي أدوية من وزارة الصحة لتوزيعها على المراكز، وبقيت عملية توزيعها محصورة بين الوزارة ومراكز الرعاية الصحية، بخلاف ما كان خلال فترة كورونا”، علماً أن أطباء القضاء يتبعون وزارة الصحة.
وعند سؤاله عن السبب، يضحك ويجيب: “عليك سؤال المعنيين، أنا لا أعرف السبب”، مشيراً إلى أنه كان “يجول على المراكز لمعاينة النازحين بمبادرة شخصية وليس بتوجيهات من الوزارة”.
أما ما قيل عن خطة رسمية للتنسيق بين الوزارات واتحاد البلديات، فقد بقيت مجرد حبر على ورق، إذ لم تصل أي مساعدات مباشرة إلى الاتحاد. وفي هذا السياق، يؤكد بو كروم أنه “كنا نسمع عن هذه الخطة عبر الإعلام والتعاميم الرسمية. إلا أنها لم تكن واقعية على الأرض، ولم تكن تحت سلطة البلديات، واقتصر دورنا على تزويد الوزارات أرقام النازحين لا أكثر”.
ويرى أن تغييب دور اتحاد البلديات يعود إلى خلل بنيوي في آلية عمل الدولة، اذ بدا واضحاً أن التعاميم الصادرة لم تكن تتناسب مع إمكانات البلديات، بل كانت تهدف إلى رفع المسؤولية عن الوزارات المعنية وتحميلها للبلديات، في حال حدوث أي تقصير أو إهمال في إدارة الأزمة”.