
«تنفيعة» للقاحات الإنفلونزا
مطلع تشرين الثاني الماضي، أطلقت وزارة الصحة الحملة الوطنية للتلقيح ضد الإنفلونزا لتمنيع المجتمع. أصابت الحملة في التوقيت، إذ جاءت في موسم إعطاء اللقاحات بين أيلول وكانون الأول، وتزامنت مع الحرب الإسرائيلية التي أدّت إلى نزوح مئات الآلاف، أقام عدد كبير منهم في مراكز الرعاية الصحية الأولية. في المرحلة الأولى من الحملة، كان من الطبيعي أن تستهدف الوزارة المقيمين في مراكز الرعاية بحسب الأولويات (كبار السن، الأطفال، ذوو المناعة الضعيفة…)، وقد نجح الأمر بشكلٍ لافت، إذ أُعطي نحو 10 آلاف لقاح في تلك المراكز، ما جنّب البلاد موجة من الإصابات كان يمكن أن تحدث في عز الحرب. وبقيت هناك حاجة في تلك الفترة إلى نحو 5 آلاف لقاح إضافي.
غير أن عاملين في الوزارة فوجئوا بأن الوزير السابق فراس أبيض «اشترى ما يقارب 26 ألف لقاح من إحدى الشركات». وبغضّ النظر عن الكمية التي كان يستحيل تصريفها قبل انتهاء موسم التطعيم وقبل انتهاء صلاحيتها أيضاً (في تموز المقبل)، وقد ارتكب الوزير في عملية الشراء مخالفتين أساسيتين للنظام الداخلي، إذ «لا يحق للوزارة شراء لقاحات من خارج الروزنامة الوطنية التي تتضمن فقط اللقاحات الأساسية». والمخالفة الثانية، تخطّي آلية «الشراء الموحّد» المعتمدة عبر منظمة اليونيسف في شراء اللقاحات. تخطّى الوزير الشرطين، واشترى اللقاحات، ليدبّ «الذعر» في كيفية تصريفها مع انتهاء الموسم الذي تُعطى فيه.
وفي هذا السياق، عمدت دائرة الرعاية الصحية الأولية إلى تصريف ما أمكن منها، قبل أن يستقر الرأي على «الاستفادة من هذه اللقاحات بإعطائها للحجاج»، وقد صدرت أخيراً توصية بذلك عن وزير الصحة الحالي ركان ناصر الدين، يشير فيها إلى أنه يمكن للحجاج «الحصول على لقاحَي الإنفلونزا والكورونا الموصى بهما مجاناً في مراكز الرعاية الصحية الأولية». والمفارقة أنه جرت العادة أن يُعطى هذا اللقاح مجاناً للحجاج كل عام، قبل أن يلغي الأبيض هذا القرار إلى جانب وقف لقاحات أخرى كانت تُعطى مجاناً للمواطنين، مثل لقاحات الكلب والأمصال المضادة لها وأمصال الأفاعي ولقاحات الحمى الصفراء.
شراء اللقاحات التي لا حاجة لها لم يكن هفوة، بل يأتي في سياق سياسة قامت في وزارة الصحة جعلت منها وزارة خدماتية على حساب المريض، بدلاً من أن تكون لحسابه. وهذا ما يمكن تلمّسه بسهولة من ملفاتٍ كثيرة، كملف أنظمة الربط الإلكتروني، حيث تُصرف مئات آلاف الدولارات على أنظمة ربط معلوماتية، فيما يُحرم المرضى من الأدوية. وكذلك في ما يُصرف من أموال على استراتيجيات الصحة الوطنية من دون أن تظهر آثارها على صحّة المرضى، ناهيك عن البرامج التي تفرّخ مع كل مناسبة أو حدث و«يُستقدم» لها من خارج الوزارة فريق من «الموظفين والمستشارين» الذين يتقاضون رواتب بالدولار. وفي ظل هذه السياسات، يصبح مفهوماً مثلاً أن ينقطع مرضى السرطان من أدويتهم أو أن تذهب لقاحات للتلف لأن الوزارة زادت الكمية من دون حساب لحاجتها إليها. ويمكن استعادة ما جرى خلال جائحة كورونا، حيث ذهبت لقاحات كثيرة للتلف، وهي بمعظمها لقاحات دفعت الوزارة ثمنها، ومثلها كاد أن يحدث مع لقاحات الإنفلونزا.