
جنازة قائد أم جنازة مشروع؟
أما وقد انتهت الجنازة – الحشد، وشيّع “الحزب” أمينَيْه العامَّين حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين، ستزيد حدّة الأسئلة الوجودية غير القابلة للمراوغة.
أراد “الحزب” لوداع نصرالله تحديداً، زعيمه التاريخي، أن يكون أكثر من مجرّد طقس تأبينيّ، بل استفتاء قسريّ على مشروعيّة “الحزب” نفسه وفكرة المقاومة بكلّيّتها، قفزاً فوق حرب انتهت بهزيمة عسكرية وسياسية مدوّية. وأراد مَن جعل مسيرة العزاء، استعراضاً متأخّراً للقوّة، أن يجيب عن أسئلة جمهوره بأنّ ثمّة بعد، بعد نصرالله، وثمّة بعد، بعد الحرب الأخيرة.
هذا تماماً ما انطوى عليه النداء التعبويّ الذي أطلقه الأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم، حين دعا إلى “تحويل هذا التشييع إلى مظهر تأييد وتأكيد على الخطّ والمنهج ونحن مرفوعو الرأس”. فهو يدرك أنّ “الحزب” بحاجة إلى طمأنة نفسه وناسه قبل الآخرين، من خلال تحويل الجنازة إلى تصويت جماهيري مفتوح على شرعية المرحلة المقبلة.
طقس استعراضيّ لا يغيّر في الجوهر
بيد أنّ “الحزب” يدرك قبل غيره أنّ الحشود إذ تفقد الصلة بوظيفة سياسية حقيقية، لأصحاب التحشيد، تستوي مجرّد طقس استعراضي، لا يُغيّر في جوهر أزمتها شيئاً.
أن لا يبقى أمامه سوى العودة إلى الحشود، كملاذ أخير لإثبات الوجود، إنّما ينطوي على اعتراف ضمني بأنّ “الحزب” فقد فعّاليّته السياسية وانهارت خطاباته الكبرى، وبات كلّ مشروعه موضع سؤال في عقل بيئته قبل غيرها.
في ذاكرة مشيِّعي أمس أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران نظّمت واحدة من أكبر الجنازات في تاريخ البلاد، لتشييع قائد فيلق القدس قاسم سليماني. خرجت حشود ضخمة في طهران وكربلاء وقم ومشهد وكرمان، في مشهد أُريد له، كما يريد “الحزب” اليوم، أن يكون استفتاء شعبيّاً على شرعية النظام الإيراني ونفوذه الإقليمي. وبينما كان النظام يتوقّع أن يستثمر مشهد التشييع لمصلحته، ونصّبه شاهداً على ثبات الولاء الجماهيري، سرعان ما اندلعت شباط 2020، احتجاجات شعبية غاضبة بعد إسقاط الحرس الثوري طائرة ركّاب أوكرانية، تخلّلها إحراق صور سليماني نفسه وتحطيم الرموز التي رفعت لتكريمه.
تعلّم الإيرانيون ما سيتعلّمه جمهور “الحزب” قريباً، ومفاده أنّ الحشود وإن صنعت لحظةً، لكنّها أعجز من أن تصنع شرعية دائمة، لا سيما إن بدا التحشيد بديلاً عن السياسة، أو صورة لاستمرارية مشروع فقد مبرّراته.
حشود لم تمنع الانهيار
لطالما كانت الحشود الجماهيرية سلاح الأنظمة الشمولية والحركات العقائدية لتثبيت شرعيّتها. لكنّ التاريخ مليء بحشود ضخمة لم تمنع انهيار أصحابها، بل كانت في أحيان كثيرة المسمار الأخير في نعوشهم. حين وقف نيكولاي تشاوشيسكو على شرفة قصره في بوخارست عام 1989، كان يظنّ أنّ الجماهير التي هتفت له طويلاً ستظلّ على العهد، لكنّها انقلبت عليه في لحظة، وأُعدم بعد 72 ساعة.
في عموم الأنظمة الشمولية، مثل الاتّحاد السوفيتي وألمانيا النازية وحكم الأسدين في سوريا، لعبت الحشود الجماهيرية وتنظيم مسيرات ضخمة واحتفالات وطنية دوراً مركزياً في تعزيز السلطة وإظهار الهيمنة، وتوحيد الشعب تحت راية الحزب الحاكم. وفي حالة الاتّحاد السوفيتي وألمانيا النازية، انهارت الأنظمة على الرغم من استمرار حشد الجماهير حتّى فترات قريبة من سقوطها.
أزمة الوعد بالاستمراريّة
والحال، يواجه “الحزب” أزمة تحويل جنازة نصرالله إلى وعد بالاستمرارية، لجمهور استُنزف، وبيئة اجتماعية غاضبة، بعد حرب لم تأتِ بأيّ انتصار. فالحشود عامّةً كائن جائع على الدوام. لا تكتفي، لا تتوقّف، ولا تحتمل الفراغ. وهي بمجرد أن تتكوّن، تُصاب بغريزة التمدّد، لأنّها تخشى لحظة التلاشي والتفرّق.
إذا صحّ أنّ الحشود لا تتحرّك فقط من أجل تحقيق هدف محدّد، بل لأنّها تحتاج إلى حراك مستمرّ، صحّ أيضاً أنّها دائمة البحث عن معركة جديدة، وعدوّ جديد. أمّا التمدّد بلا غاية ومشروع واضحين، كما هو حال “الحزب” الآن، فسرعان ما سيحوّل الحشود إلى عبء على نفسها وعلى قيادتها.
من حقّ “الحزب” أن يكابر طبعاً، على حجم التآكل في بنيته السياسية والعسكرية، ومن حقّه أن لا يعتبر جنازة يوم الأحد، جنازة للمشروع نفسه. ومن حقّ اللبنانيين أن يراهنوا أنّ ما حصل ليس إعلان ولادة جديدة لـ”الحزب”، بل لحظة مؤقّتة من الإنكار، تحاول تأجيل مواجهة الحقيقة، وأنّ زمن الحروب قد أقفل فعلاً إلى غير رجعة.
أما وقد تفرّق الحشد، فالأسئلة الحقيقية تبدأ الآن.