الانقلاب المطلوب من “الحزب” قاسم يُدِين نصرالله
حاول “حزب الله” الانقلاب على العهد بعد نكستي انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتسمية نواف سلام لتأليف الحكومة، اللتين اعتبرهما وكأنّهما انقلاب سياسي عليه لاستكمال تطبيق اتفاق وقف النار والقرارات الدولية 1701 و1559 وإنهاء وجوده العسكري والأمني. يريد “الحزب” أن يثبت حضوره واستمراريته من دون أي تعديل أو تبديل بينما المطلوب منه أن ينقلب على نفسه وشعاراته واستراتيجيته نتيجة الحرب الخاسرة التي خاضها، خصوصاً بعد جردة الحساب التي أجراها أمينه العام الشيخ نعيم قاسم وشكّلت إدانة لمرحلة قيادة السيد حسن نصرالله.
الكلمة التي ألقاها الشيخ نعيم قاسم في 27 كانون الثاني مع انتهاء مهلة الستين يوماً الأولى التي كانت محددة لانسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، جاءت بمثابة تحميل مسؤولية لقيادة “حزب الله” وخططها العسكرية والأمنية. وإن كان قاسم تعمد بعد كل تفصيل في جردة الحساب التي أعلنها أن يقول سجّلوا هذا نصر، إلا أن الواقع يثبت العكس: سجّلوا هذا ليس نصراً. إنها هزيمة.
أُخِذ على الشيخ نعيم أنّ كلمته كانت مسجلة وأنها من الأدلة على البلبلة والضياع المستمرّين في قيادة “الحزب” وداخل بيئته، وعلى أن الأحداث كانت تجاوزت مضمون الكلمة في ما يتعلق بتمديد مهلة وقف النار والانسحاب حتى 18 شباط، بحيث بدا وكأن قاسم خارج الزمن السياسي. فمن يتحمل مسؤولية مثل هذا الخطأ؟ وهل هناك في دائرة قرار “الحزب” من لا يريدون مصلحة قاسم؟ وإلا فلماذا لم تعمل القيادة على تعديل الكلمة أو تأجيل بثّها؟ ولماذا لم يأمر قاسم بذلك؟
جردة حساب من البدايات
ليس هذا الخلل هو الأهم في جردة حساب قاسم لمجريات الحرب وللخسارة التي تكبّدها “الحزب” والتي يمكن من خلالها التوقف عند نقاط كثيرة أثارها:
• اعترف قاسم بأن عملية اغتيال مسؤول “الحزب” في البقاع الغربي الشيخ محمد حمادي ليست عملية ثأر عادية بل يمكن أن تكون عملية اغتيال تقف إسرائيل وراءها. وهذا اعتراف بأن بيئة “الحزب” لا تزال مخترقة. فكيف يمكن لمجموعة تابعة للموساد الإسرائيلي أن تنفذ العملية وتخرج من ساحة الجريمة بهذه السهولة؟ وحتى لو كانت عملية ثأر فمن هي الجهة التي باتت تتجرّأ على “الحزب” وعلى مسؤول قيادي فيه؟ هذا ليس نصراً.
• قال قاسم هناك “بَونٌ شاسع بين القدرة العسكريّة الإسرائيليّة الأميركيّة الضخمة وبين قدرة المقاومة مهما راكمت المقاومة من قدرات. دعونا نعترف ونكون واضحين جداً، يوجد تفوّق عسكري استثنائي إسرائيلي أميركي في مقابل القدرات العسكريّة الموجودة عند المقاومة، في المقابل المقاومة خيار، خيارٌ عقائدي وسياسي ووطني وإنساني لمواجهة الاحتلال…”. ومع ذلك اعتبر أن حق المقاومة تفوّق على التفوق العسكري الإسرائيلي وأن قوة الإيمان والقدرة على التحمل أهمّ. وأضاف: “سجلوا هذا نصر”.. ولكن هذا الاعتراف من قاسم يأتي بعدما كانت قيادة “الحزب” السابقة قد أعطت انطباعاً بأنها متفوقة على العدو الإسرائيلي وأنها باتت تمتلك قوة الردع ويمكنها أن تبدأ حرب تحرير فلسطين من الجليل. وهو بذلك يحمِّل هذه القيادة مسؤولية الخطأ في التقدير. وهو خطأ قاتل. وهو ربما لم يكن في دائرة القرار العسكري والأمني الذي أخذ “الحزب” إلى هذه الخيارات وهذه المواجهة، وبالتالي لا يحمّل نفسه المسؤولية.
مهمة إنقاذ “الحزب”
• يعترف قاسم بقساوة الضربات الإسرائيلية واغتيال قادة “الحزب” وأمينه العام وبالضياع الذي ساد المستوى القيادي. ولكنّه يعتبر أن “المقاومة استعادت القيادة والسيطرة، وملأت الشغور على مستوى القيادة بعد 10 أيّام من الزلزلة التي حصلت، ملأت الشغور في القيادة بانتخاب أمينٍ عام وبتكليف بدائل من القيادات المختلفة في كل المواقع الجهاديّة من دون استثناء”. يعني ذلك أن قاسم يعتبر أنّ وصوله إلى الأمانة العامة أعاد التوازن إلى “الحزب” وأنقذه من الهزيمة. حدّد قاسم فترة الضياع بين 27 أيلول تاريخ اغتيال نصرالله، وبين 7 تشرين الأول تاريخ توليه المسؤولية كنائب للأمين العام بعد اغتيال السيد هاشم صفي الدين الأمين العام الثالث، وقبل تعيينه أميناً عاماً في 29 تشرين الأول، قال: “كانت 10 أيّام عشنا أصعب الأيام، وهي نتاج خطّة إسرائيليّة مُحكمة بتسديد ضربة قاضية لـ “حزب الله”، لكنّنا استعدنا حضورنا … سجّلوا لديكم هذا نصر”. ولكن أين النصر بعد اغتيال أمينين عامين لـ “الحزب”؟ هل هو بملء الفراغات في القيادة؟
• يعتبر قاسم إن الهجوم البري الذي بدأته إسرائيل بعد اغتيال نصرالله والقادة لم يحقّق أهدافه بسبب صمود المقاومين. في الواقع كان قاسم أميناً عاماً خلال المواجهات التي استمرت حتى اتفاق وقف النار في 27 تشرين الثاني. ولكن عن أي صمود يتحدث؟ يمكن الحديث هنا عن التضحية بكل مقاتلي “الحزب” الذين تُرِكوا لمواجهة مصيرهم في معركة غير متكافئة بحيث أن قيادة “الحزب” السابقة للشيخ نعيم والمرافقة له تتحمّل مسؤولية هذه “المجزرة” التي لحقت بهم، والعودة التي حصلت إلى بعض البلدات التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي أظهرت كيف أن الكثيرين من المقاتلين قضوا تحت الأنقاض، ولا يزال مصير الكثيرين منهم مجهولاً.
انتصار بوقف النار
• الواقع أن القرى الأمامية سقطت واحتلتها إسرائيل وإلا لماذا كان اتفاق وقف النار؟ لأن انهيار الواجهة الأمامية فتح المجال أمام توغّل إسرائيلي كبير، خصوصاً أنّه ترافق مع تحطيم قدرات الحزب الإستراتيجية الصاروخية وأفقده القدرة على التصدّي والردّ. ولكن يعتبر قاسم أن “الأبواب انسدّت أمام العدو الذي لم يستطع أن يتقدّم على الجبهة، ولم يتمكّن من إحداث فتنة داخلية بين الطوائف في لبنان، ولم يتمكّن من إنهاء المقاومة، ولذلك طلب من خلال أميركا بوقف إطلاق النار، وافقنا مع الدولة اللبنانية على وقف إطلاق النار، وهذا انتصار، سجّلوا هذا نصر”. ولكن بعد ذلك يقول: “بعض جمهور المقاومة لديه تساؤلات، وتفاجأ بما حصل، وهذا حقّ مشروع، الحادث كان كبيراً جداً، الحرب كانت كبيرة جداً، بعض النتائج لم تكن متوقعة، من الطبيعي أن تطرح أسئلة”.
• عن هذه الأسئلة يجيب قاسم ويعتبر أن البروباغندا التي اتبعها “الحزب” في ظل قيادته السابقة أوحت بأنّه أصبح لديه قوة خارقة بحيث “ظنّ الكثيرون بأنّنا سنهزم إسرائيل عسكرياً بالضربة القاضية إذا حصلت معركة بيننا وبينها، أي اعتبروا أنّ هذه القوة كافية من أجل أن تهزم إسرائيل عسكرياً، هذا كان موجوداً في العقل الباطن…”. ويحمل المسؤولية لهذا الاعتقاد في العقل الباطن لدى الجمهور والقيادة، الذي لم يتوقّع خسارة هذا العدد الكبير من القيادات وعلى رأسهم نصرالله.
• لا يكتفي قاسم بهذا الحد بل يذهب أيضاً إلى الكشف عن الهوّة المعلوماتية وسيطرة العدو على الاتصالات والذكاء الاصطناعي وسلاح الجو الذي غطّى لبنان وهذه ثغرة كبيرة جدّاً، انكشفنا بهذا المقدار الواسع من هذه الأبواب. نحن نجري الآن تحقيقاً لأخذ الدروس والعبر واتخاذ الإجراءات اللازمة. ما حصل هو أمر استثنائي وهو أمر مفاجئ وبالتالي يجب أن نفهم التفاصيل، وكان يُفترض ألا يكون هذا الانكشاف بهذه الصورة. لكنه أمر حصل”. ولكن عن أي تحقيق يتحدّث ولمن يمكن أن يُحمّل المسؤولية عن مرحلة كانت سلطة القرار فيها محصورة بسلفه السيد حسن نصرالله؟
• تعويضاً معنوياً يعتبر قاسم أن غلبة المقاومة على إسرائيل هي بإيمانها وليس بالقوة العسكرية. وإذا كان الأمر كذلك لماذا راكم “الحزب” كل هذا الكم من الترسانة العسكرية التي لم تقدّم له النصر؟ ولماذا يصرّ على الاحتفاظ بها؟ وإذا كان صار عاجزاً عن قتال إسرائيل فمن سيقاتل؟
غزوات ضد من؟
الخطاب التخويني الذي يتولّاه نواب ومسؤولون في “الحزب”، وقوافل الموتسيكلات والتهديدات، وهتافات “شيعة شيعة”، تظهر أن هدفه الحفاظ على دوره ومكتسباته السابقة في الداخل. تخدم إسرائيل “الحزب” إذا لم تنفذ الانسحاب الكامل لأنّها تعطيه مبرّراً لكي لا يتخلّى عن سلاحه وهو الأمر الذي يجب أن يترافق مع الانسحاب. بعد انسحاب إسرائيل عام 2000 بحث “الحزب” مع النظام السوري عن حجّة مزارع شبعا لكي يحافظ على سلاحه وعلّة وجوده. وبعد صدور القرار 1559 تم اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005. وبعد حرب تموز 2006 وصدور القرار 1701 ارتدّ إلى الداخل ونفّذ غزوة 7 ايار 2008. اليوم يبحث “الحزب” عن غزوات بديلة بالسلاح أو بغيره. إذا كان يعتبر أن انتخاب جوزاف عون وتكليف نواف سلام مؤامرة عليه، فهل يكون الحلّ بالانقلاب الأمني والعسكري على العهد في بداية انطلاقته وتعطيل الحكم بعد الفشل في الاستمرار في فرض الفراغ؟
إذا كان الشيخ نعيم يحمِّل المسؤولية للقيادة السابقة في “الحزب” لأنّها خلقت وهم التفوق العسكري والأمني وجلبت الهزيمة، وإذا كان يعتبر أنّه أنقذ “الحزب” من الانهيار فلماذا الإصرار على الاستمرار في النهج نفسه؟ هذا السؤال يقود إلى ما هو أبعد: من يمسك اليوم بقرار “الحزب”؟ الشيخ نعيم أم محمد رعد أم الشيخ محمد يزبك أم الحاج وفيق صفا أم السيد ابراهيم أمين السيد أم ما تبقى من القيادة العسكرية؟ أم ضابط من فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني؟