الاغتيالات من كامل اليوسف إلى الياس الحصروني… فمن سدّد ومن قتل؟
و بقي حياً. لو تركوه حياً، لكان لقمان محسن سليم اليوم قال- ما قالته لنا والدته الثكلى الست سلمى قبل أشهر: الله، في الآخر، يجازي. هو اغتيل. قبله اغتيل كثيرون وبعده اغتيل كثيرون. واليوم، يكون قد مضى على اغتياله أربعة أعوام- إلا يوماً وساعات – بالتمام والكمال. السنوات تمضي والتحقيق في قتله معلّق “باسم الغالبين”- أو من يظنون أنفسهم غالبين – بعيد كل اغتيالٍ ناجح. الاغتيال غدر. والصمت عن الغدر خنوع. لهذا، أنجب لقمان، في حياته، “أمم للتوثيق والأبحاث”. وهو لم يدرِ أن مؤسسته ستُنجب مؤسسة باسمِهِ، وسيحلّ على روزنامتها في مرصد (روزنامة) من يفترض أن يحاسبوا قضائياً. مَن قتل مَن؟ ومما خاف – ويخاف – القاتل؟ ومن سدد وأخطأ؟ هو مشروع نبش الاغتيالات السياسية في “لقمن (لقمان) سليم فونديشن” من الاستقلال حتى اليوم كي لا ننسى:
تعالوا نفتش في مرصد المحاسبة القضائية في مؤسسة لقمان سليم. نبحث في الروزنامة فنجد أسماءً وأسماء، بعضها نعرفها، نتذكرها، وبعضها ظنّ القتلة أنها أصبحت في دار النسيان. لبنانيون، سوريون، عراقيون… اغتيلوا لا لشيء إلا لأنهم تجرأوا على الكلام. نعود إلى الوراء كثيراً، إلى تاريخ الاستقلال اللبناني، ونبدأ حصاد الأسماء: أول الأسماء على اللائحة الطويلة يحلّ كامل الحسين اليوسف (فلسطيني) اغتيل في حاصبيا عام 1949، تبعه رياض الصلح (1951) ثم العقيد السوري غسان حديد (1957) ثم الصحافي غندور كرم (1957) ثم الصحافي نسيب المتني (1958) وتكرج الأسماء… ماذا عن آخر الاغتيالات التي وثقتها مؤسسة لقمان سليم؟ اغتيال الياس الحصروني المدبّر في عين إبل عام 2022. الروزنامة تضم، بحسب ما وُثق، أكثر من مئتي اسم. هؤلاء هم من قُتلوا لأنهم تكلموا. لم يكونوا يحملون سلاحاً بل مجرد فكر ومبدأ وتطلع ورؤية. فلندخل أكثر في التفاصيل.
قصدنا مؤسسة لقمان سليم. هناء جابر، الباحثة، هي من تعمل على التوثيق في المؤسسة مع زوجة لقمان مونيكا وشقيقته رشا. رسومات كثيرة موزعة على جدران المؤسسة بريشة جوني سمعان. ننظر في الصور، في أبعاد الصور، نرى أشخاصاً، شعباً، آراء، وقصصاً. ونصغي إلى هناء فنعلم أن لا مكان، في المؤسسة، للصمت. ننصت إليها بإمعان وهي تحدثنا عن عمل المؤسسة “اكتشفنا للأسف أن الاغتيال يتمّ، تقوم قيامة الناس، وبعد أشهر، لا بعد أيام، يُنتسى الشخص والجرم أمام جرم واغتيال آخر. ولا ننتبه إلى الأثر السياسي على المجتمع والمسارات السياسية معتبرين أنها مجرد حادثة وطويت. مهمتنا أن نعمل “زوم أوت” والنظر عن بعد لاكتشاف المسارات السياسية التي أثّر فيها اغتيال ما. هذا ما نفعله وانتبهنا إلى أن الاغتيال- أي اغتيال- النية من ورائه تغيير المسارات السياسية في المجتمعات. كل سلطة تأتي في زمن ما أوّل ما تقدم عليه هو تشحيل وتصفية المعارضين بغية تقويض المسارات السياسية التي يمكن أن تكون ممكنة لو بقوا أحياء. الاغتيال، لا يتسبب بمآسٍ مجتمعية وعائلية فقط بل يبث الرعب بين الناس الذين يتشاركون نفس الآراء مع من جرت تصفيته وتخضّ الحراك السياسي”.
بدأ المشروع قبل اغتيال لقمان وكأنه كان عارفاً أنه قد يكون – سيكون – واحداً من الاسماء. هو بدأ من خلال مؤسسة “أمم” بتعداد الشخصيات التي اغتيلت من خلال مشروع ديوان الذاكرة اللبنانية، وذلك تحت عنوان: مَن قتل مَن؟ ووضع لائحة ثانية بعنوان: سدّد وأخطأ قاصداً فيها محاولات الاغتيال الفاشلة. هي محاولات دائمة ومستمرة عبر التاريخ واكبت كلّ الأحداث اللبنانية على مدى تاريخ لبنان.
“يوم اغتيل لقمان – تقول هناء – أخذنا اللائحة التي أعدها هو وطالعناها. كانت النواة. وباشرنا في إكمالها والإضاءة عليها بقدر إمكاناتنا. هذا مشروعنا. هذا مشروع مؤسسة لقمان سليم”.
توثيق الاغتيالات في سوريا بدأ أيضا “وثقنا حتى الآن نحو ثمانين اسماً منذ بداية الاستقلال في سوريا. الاغتيالات هناك أيضاً كثيرة. وما لفتنا أن الاغتيال السياسي يدل على دينامية سياسية ووجود معارضة ويعطي فكرة عن المخاض السياسي. فمن خلال اغتيال شخص ما يغتالون أداءً سياسياً معيناً” تضيف هناء “في وقتٍ من الأوقات لم نعد نرى اغتيالات، بالمعنى الفردي، في سوريا لأن الاغتيال هناك انتقل إلى القتل الممنهج المؤسف، الذي لا يفرق بين معارض وغير معارض. فبمجرد أن يشكو فرد ما من شيء ما يصبح مشروع قتيل. وما فهمناه أنه حين يُغتال شخص ما يغتالون معه موقفاً وسياسة”.
بين لبنان وسوريا أكثر من شعار “شعب واحد في بلدين”. هناك إغتيال منهجي واحد لمشروعٍ واحد. فهل كانت تستخدم نفس الأدوات والمنهجية في البلدين؟ تجيب هناء “أول إنسان اغتيل في لبنان هو الفلسطيني كامل الحسين اليوسف قضى على يد جنديين سوريين. ويومها طلب القضاء اللبناني تحويلهما إلى المحاكمة فقامت القيامة في سوريا بحجة أن القضاء اللبناني يريد أن يحاكم من قتلا خائن. ويومها أتى الحلّ بنقل الجنديين لمحاكمتهما في سوريا. وانتهى الموضوع. أتى البعث في سوريا وكان النهج له اليد الطولى في كل ما حصل غالباً في لبنان بحكم تداخل التاريخ بين البلدين. تلك اليد تشير إلى أن المجتمعين كانت علاقاتهما متداخلة دائماً تاريخياً. كان البعث يمارس الاغتيالات ضدّ اللبنانيين الذين يطالبون بالسيادة والاستقلال عن سوريا”.
نعود إلى روزنامة من وثق اغتيالهم في لبنان التي لم تضم بعد كل الأسماء “هذه الفقرة لا تزال تحت الإعداد. في المؤسسة مشروعنا الدفاع عن كل الناس الذين تمّ إسكاتهم ولديهم مشروع تنويري. قتلوا ولم يكونوا يحملون السلاح. هؤلاء قد يكونون سياسيين أو موظفين في الدولة وكتاباً وشعراء وناشطين. من واجبنا – وهو راحة للقمان – التعريف بهم كون معظم المحاكمات لم تؤد إلى محاكمة القتلة وطويت ملفاتهم بسرعة. نعمل على إيفاء هؤلاء بعض حقهم وذلك من خلال الحديث عنهم – قدر الإمكان – في الحضور والذاكرة ومن خلال الدفاع عن مشروعهم التنويري المنفتح. وبذلك نكون نقول للقتلة: صفّيتم الجسد لا المشروع”.
بنك المعلومات في مؤسسة لقمان سليم يكبر. لكن ما يجب أن يعرفه الجميع – خصوصاً من يتساءلون- أنه “لا يمكن وضع كل من اغتيلوا في نفس المصاف. لا يمكن وضع اغتيال شخص مثل عماد مغنية بنفس الفئة مع اغتيال شخص مثل لقمان – على سبيل المثال لا الحصر – نحن نقول إن مغنية اغتيل كي لا نفقد موضوعيتنا لكننا لن ندافع عنه. سنضعه توثيقاً في فئة من اغتيلوا لكن الفئة التي تعنينا هي التي كانت تحمل مشاريع تنويرية بالكلمة لا بحمل السلاح”.
هل نفهم من ذلك أن اغتيال السيد حسن نصرالله لا يدخل في الخانة نفسها؟ تجيب هناء “نحن مشروعنا الدفاع عن حملة الرأي والكلمة. الشيخ حسن خالد مثلاً نعتبر أنه من الضروري تسليط الضوء على ملفه حتى ولو لم نحمل نفس الآراء لكن كان مدنياً له رأي”. وتستطرد: “هناك من يسمي بعض الاغتيالات “المستهدفة عسكرياً” أي تحدث في إطار الحرب. وهذا التعبير يُكرس عالمياً. يعتبرونه targeting killer (هدف عسكري). وهذا ما يطرح أمامنا مسألة أبعد وأعمق هي تطور آليات العنف السياسي في مجال العولمة. الحروب باتت مركّبة وتدخل عليها معطيات جديدة لم نتوقعها. إنسانياً، نحن لا نقول “حرام اغتيل لقمان” ونهلل لقتل نصرالله بل نحزن لما وصلنا إليه من أشكال العنف”.
رشا الأمير، شقيقة لقمان، تتحدث عن أشخاص اغتيلوا لكنهم “محظوظون”: “الإغتيالات التي تمّ الإعلان عن منفذيها قلة قليلة بينهم بشير الجميل وكمال جنبلاط ورفيق الحريري وكامل مروة. تمّ الكشف عمن قتل هؤلاء. تمّ تحديد القتلة الصغار وكلهم هربوا. ووراء كل قاتل صغير قتلة أفكار. “حزب الله” قاتل الفكرة من خلال قاتل صغير. الناصريون أيضاً. والقوميون السوريون أيضاً والبعث… ونحن أمام معضلة فحواها: هل يمكن إدانة من يقتلون الأفكار؟ القتلة الصغار لا قيمة لهم. هناك دائماً جهات أمنية كبيرة تأخذ قرار الاغتيال وينفذه صغار يعدونهم بتسهيل مهامهم وتأمين حمايتهم. نحن نسعى إلى “فكفكة” قتلة الأفكار من خلال تفكيكها وفهم مساراتها”.
فلنحاول مع مؤسسة لقمان سليم “فكفكة” بعض مسارات ملفات الاغتيال. ها هو المواطن والناشط السياسي الياس الحصروني يُغتال في منطقة خاضعة لقرار مجلس الأمن رقم 1701 وفي نطاق قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. اغتياله يُشبه آلية اغتيال لقمان، لجهة القدرات اللوجستية والاحترافية لفرقة الاغتيال، كما يتطابق في جرائم عديدة استهدفت مواطنين لبنانيين مثل جو بجاني ومنير أبو رجيلي وأنطوان داغر. وكلها جرائم تواطأت الدولة اللبنانية في طمسها. هناك فئة تظن نفسها غالبة قتلتهم جميعاً ليس لشيء إلا لأن لكل واحد منهم رأيه ونشاطه وشيء ما يخافه القاتل. طويت ملفات كل هؤلاء لكن مؤسسة لقمان سليم وثّقت اغتيالهم، واحداً تلو واحد، إيماناً منها أنهم صفيوا جسدياً أما أفكارهم فيجب أن تبقى.
ماذا عن مجريات توثيق اغتيال لقمان ما دام القضاء معطلاً حتى إشعار آخر؟ تجيب رشا “نحن نعرف لماذا قتلوا لقمان، والقاتل الكبير، لكننا نريد تحديد القتلة الصغار. لا يمكننا إدانة “الفكرة” المتمثلة بجهة من وراء الاغتيال لكننا سنستمر في الحراك لتحديد القتلة الصغار الأدوات. وهذا يفترض أن يكون عمل “البوليس” والقضاء”.
مَن قتل مَن؟ من المفارقة الواضحة أن اللبنانيين باتوا قادرين على تحديد الطرف الذي أمر بالقتل قبل أن تلقي القوى الأمنية – هذا إذا فعلت – القبض على القتلة الصغار.
فلنأخذ قضية اغتيال بشير الجميل. إذا سألنا من قتل بشير سيبتسم- ولو قهراً – كثيرون. حبيب الشرتوني قاتل صغير. وما يفترض أن يبقى للتاريخ أن اغتيال فخامة رئيس الجمهورية الشيخ بشير يندرج ضمن الاستراتيجية السورية خلال الحرب اللبنانية القائمة آنذاك على عدم السماح لأي طرف بتحقيق تفوق عسكري وسياسي يخالف المصلحة السورية. بكلام آخر، وبحسب ما وثقته مؤسسة لقمان سليم على لسان ألفرد ماضي: أن القول بأن إسرائيل متواطئة في الاغتيال هو من وحي نظرية المؤامرة. فموت بشير كانت له تأثيرات على مجمل الوضع المسيحي في لبنان وعلى الوضع اللبناني عموماً”.
مَن قتل مَن؟ ومَن سدد وأخطأ؟ لقمان سليم هو أوّل من حاول توثيق هذا وذاك ولم يعرف آنذاك أنه سيُصبح اسماً على لائحة الاغتيالات الناجحة. لكن، مثلما قال ذات يوم: رح نكفي – وسيتابع من يأتون بعدنا – من أجل العدل في لبنان والعالم.