إدارة التنوّع
عُقد أمس في بيروت لقاء حواري بدعوة من دار النهار حول القضيّة الكردية وإدارة التنوع في البلدان المتعدّدة الثقافات، شاركت فيه نخبة متنوّعة من المفكّرين والكتّاب والإعلاميين من إقليم كردستان والعراق وسوريا ولبنان. والعنوان يرتدي اليوم أهمية استثنائية في ظل تطورات الأحداث ولأن المجتمعات في سائر دول المنطقة هي مجتمعات متنوّعة تحتاج إلى إيجاد الصِيَغ المناسبة في كل منها لإدارة العلاقة بين مكوّناتها المتنوّعة دينيًا وعرقيًا وسياسيًا.
المجتمع المتجانس بالمعنى الصافي أو الكامل ليس موجودًا في أية دولة أو إقليم. حتى تلك التي تتكون من جماعة دينية أو عرقية واحدة، إذا وُجدت، تتضمن تنوّعًا ضمن الجماعة الواحدة من حيث التوجُهات السياسية، وتيارات دينية مختلفة في داخل الدين أو المذهب أو العرق الواحد. وهذه الحقيقة سبق أن أثبتها أديب صعب في كتابه “الوحدة في التنوّع” الصادر عن دار النهار. المسألة إذًا تهمّ الجميع وتعني الشرق برمته، كما أنها أصبحت تعني الغرب أكثر ممّا مضى، والإقرار بوجوب إدارة التنوّع بطريقة سلميّة يعني البشريّة برمتها.
المدخل إلى فهم هذه الحقائق يكون بالتواصل ومعرفة الآخر. وهذا ما رمى إليه لقاء الأمس الذي شكّل مدخلًا إلى مرحلة جديدة وأعطى للحاضرين ومن خلالهم إلى الرأي العام اللبناني والعربي والكردي فكرة حول المنهج الصحيح لمقاربة المسائل الحساسة لا سيما تلك التي تختزن تاريخًا من الظلم والقمع ومحاولات التذويب والتصفية، كما هي حال القضية الكردية. كما شكل اللقاء بداية إطلالة مستمرّة بالاتجاهين بحيث أن بيروت وإربيل ستكونان على تواصل وتعاون في سبيل تقريب المسافات وردم الهوّات بما يتناسب مع حقيقة العلاقة وحجم المشتركات الثقافية والتاريخية.
كردستان تتوزّعها أربع دول في المنطقة، وكل منها تعاملت مع الكرد على مدى قرن كمشكلة واعتمدت الحلول القمعية والاستبدادية وقد ثبت أن هذه الحلول التي أسالت أنهارًا من الدماء، قد فشلت وتحوّلت “المشكلة” إلى “قضيّة” كردية، يعترف العالم بأحقيتها يومًا بعد يوم.
في العراق اعتمد الدستور الفدرالية وأعطي إقليم كردستان نوعًا من الحكم الذاتي المحلّي، ولكن المشاكل المستمرّة هناك وتعقيدات العلاقة بين إربيل وبغداد وآخرها أزمة الرواتب والموازنة، تدلّ على أن الصيغة المذكورة لم تشكّل حلًّا حقيقيًا دائمًا للعلاقة بين الإقليم والدولة هناك. وفي سوريا تُعتبر القضية الكردية اليوم من أكبر التحدّيات التي تواجه الإدارة الجديدة للبلاد، وتتراوح الحلول بين جولات الحوار والتلويح بالقوة العسكرية. وفي تركيا بعد عقود من الإنكار يبرز اليوم تطور غير مسبوق في موقف الأحزاب التركية الحاكمة باتجاه الاعتراف بحقوق الكرد الذين يرقى عددهم إلى العشرين مليون. وفي إيران حيث قامت دولة كردية في العام 1946 في مدينة مهاباد على يد الزعيم قاضي محمد وبدعم الاتحاد السوفياتي ولم تصمد أكثر من عام حيث سمح انتهاء الحرب العالمية الثانية وانسحاب القوات السوفيتية لحكومة طهران بشن هجوم وإعادة ضم كردستان إلى إيران، ما تزال القضية الكردية تؤرق الحكام كما حصل ويحصل في الانتفاضات الشعبية التي عرفتها البلاد.
صحيح أن منطق القوة يحكم العلاقات بين الدول، ولكن الحكم المستقر في داخل في كل منها لا يُمكن أن يقوم ويستمر بهذه الوسيلة أو بالهروب إلى الأمام وإنكار القضايا المحقّة، أو بمنطق حكم الأكثرية العددية، بل بإدارة فاعلة للتنوّع. وهذه الأخيرة تحصل بالتدرّج من الاعتراف بالتنوّع، إلى الفهم الحقيقي للمكوّنات، وصولًا إلى وضع السياسة الملائمة والعادلة لإدارة ذلك التنوّع. هذا يصحّ في المنطقة برمتها وفي لبنان حيث المسألة تحتاج إلى بحث إضافي.