إقرأوا جيداً انقلاب التوازنات في سوريا
عندما كان الأسد يتحكّم بسوريا ولبنان، قدّم دعماً مفتوحاً إلى “الحزب” وعمل على إضعاف خصومه بكلّ الوسائل. واليوم بعد وصول خصوم الأسد إلى السلطة ألا يمكن أن يؤدّي تمادي “الحزب” في الداخل اللبنانيّ إلى انفجار داخلي تصل تداعياته إلى دمشق، فتتورّط مجدداً في لبنان، ولكن ضدّ “الحزب” هذه المرة، لا معه؟
لأنّ المرحلة أخطر ممّا يتصوّر كثيرون، ولأنّ “الساكت عن الحقّ شيطان أخرس”، فقد آن الأوان لقول الكلام صريحاً، لعلّ من له أذنان سامعتان يسمع، فيجنّب نفسه ولبنان الكارثة، قبل فوات الأوان.
لو لم يصل “حزب الله” في الحرب إلى حدّ عدم التحمّل للخسائر المادية والبشرية، خصوصاً على مستوى القيادات العليا والكوادر، لما وافق على هذا الاتّفاق لوقف النار، المختلّ التوازن لمصلحة إسرائيل، والذي ينصّ حرفياً على “نزع” سلاحه (disarmament) في كلّ لبنان. فعلى مدى عام، بقي”الحزب” يرفض مناشدات الجميع له بوقف الحرب، ويرميهم بتهم التخوين إلى أن جرى ما جرى.
لكن أحداً لم يتوقّع أن يتلقّى “الحزب” خسارة أخرى، وأكبر بكثير، في الأيام العشرة الأولى من مهلة الـ60 يوماً. فقد وقع انقلاب سياسي- عسكري هائل في سوريا أزاح الحليف العلوي إلى غير رجعة، وأوصل خصومه السنّة إلى السلطة. وبذلك، خسر “الحزب” نهائياً أيّ قناة لتلقّي الدعم من إيران. وظنّ كثيرون أنّ “الحزب”، بعد هذا الانقلاب، سيقتنع بالانضواء تحت جناح الدولة. لكنه تصرف عكسياً، وراهن على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، كأنّ شيئاً لم يكن لا في لبنان ولا في سوريا. فشكّك في قدرة الجيش على مواجهة إسرائيل ما لم تكن هناك “مقاومة”، ورفض أيّ تغيير سياسي في الداخل، معتبراً أنه هو المستهدف من شعار “بناء الدولة”. وعندما فُرِض عليه انتخاب الرئيس جوزاف عون وتسمية الرئيس نوّاف سلام، أطلق العنان لماكيناته السياسية والإعلامية والشعبية لتعطيل انطلاقتهما. وعقدة وزارة المال ليست سوى بداية.
تصرف الإسرائيليون بخبثهم المعروف خلال المهلة، فاستغلّوا عدم حماسة “الحزب” للانسحاب من جنوب الليطاني. وأبلغوا هيئة المراقبة أنّهم باقون في بعض النّقاط لأنّ الجيش اللبناني لم يكمل انتشاره. ومن جهته، استغلّ “الحزب” مماطلة إسرائيل لينفّذ في 26 كانون الثاني “سيناريو” يصيب عصافير عدة بحجر واحد: نهاراً، ضرب في الجنوب مقولة الجيش القادر على فرض الانسحاب الإسرائيلي. ومساءً، دارت “الموتوسيكلات” تذكّر بيروت المسيحية والسنّية بمناخات سابقة، فيما واصل بري فرملة الحكومة: وزارة المال أو الفوضى!
لكن ما يجب أن يعرفه “الحزب” و”الحركة” هو أنّ ما يقومان به مغامرة خطرة. ومن الحكمة أن يدركا استحالة إعادة لبنان إلى “الستاتيكو” الذي كان في زمن الأسد. فانقلاب المعادلة سياسياً وطائفياً- مذهبياً في دمشق لا بدّ أن ينعكس انقلاباً مماثلاً هنا. ولأنّ من المستحيل العودة إلى الوراء في سوريا، وحتى سنوات عديدة مقبلة، فمن المستحيل أيضاً استرجاع التوازنات التي كانت قائمة في لبنان قبل التغيير في سوريا والحرب بين إسرائيل و”حزب الله”.
الأخطر هو أنّ “الحزب”، وفي لحظة الحاجة إلى ضبط المعابر مع سوريا وإقفال المعابر غير الشرعية أو تسليمها إلى الجيش اللبناني، (والأضمن أن تشاركه “اليونيفيل”)، هو يواصل الرهان على “استثمار” المعابر كالمعتاد. وهذا الأمر سيُفاقم خطر التداخل والتورط المتبادل بين لبنان وسوريا، ويثير المخاوف من إشكالات حدودية وغير حدودية لاحقاً، ومن لجوء طرف معيّن في سوريا إلى استغلال الفوضى وإقحام نفسه في مسائل لبنانية داخلية.
كثيرون لم ينسوا أنّ الأسد، عندما كان يتحكّم بسوريا ولبنان، قدّم دعماً مفتوحاً إلى “حزب الله” بالسّلاح والتغطية السياسية، وعمل على إضعاف خصومه بكلّ الوسائل. وهذا ما يدفع إلى السؤال، بعد وصول خصوم الأسد إلى السلطة، بتلاوينهم السياسية والمذهبية: ألا يمكن أن يؤدّي تمادي “الحزب” في اتّباع هذا السلوك، في الداخل اللبنانيّ، إلى انفجار داخلي تصل تداعياته إلى دمشق، فتتورّط مجدداً في لبنان، ولكن ضدّ “الحزب” هذه المرة، لا معه؟
وبصراحة أيضاً، يجدر البوح بالهمس الذي يردّده البعض حالياً، بين الجدران الأربعة، ولا يخرج إلى العلن إلّا نادراً لخطورته، وخلاصته أنّ الطائفة السنّية في لبنان توازي الطائفة الشيعية عدداً، بل تفوقها بمقدار طفيف. ومعها، هناك أكثر من مليوني نازح سوري وفلسطيني، غالبيتهم من السنّة. أي إنّ أكثر من نصف المقيمين في لبنان هم اليوم من السنّة، والبقية جميعاً لا يبلغون النصف. ففي ضوء هذه المعطيات، هل هناك مصلحة لأي طائفة في لعب ورقة الاستقواء؟
يقود هذا كلّه إلى استنتاج واحد: مصلحة “الثنائي” تكمن في تلقّف “نعمة” التغطية العربية والدولية لبناء الدولة وإنقاذ لبنان، أي التزام القرارات الدولية بحذافيرها، وتسليم السلاح في كل لبنان إلى الجيش، بحكمة وحماسة ومن دون شروط، كما سلّم المسيحيون سلاحهم ذات يوم، بعدما كانوا الأقوى في لبنان. وعودة “الحزب” إلى الدولة من دون مناورات، بمساواة في الحقوق والواجبات مع الآخرين، ستتكفل بتقوية البلد في مواجهة إسرائيل، وتجنيبه أي مغامرة محتملة من الجانب السوري، كتلك التي كان يفتعلها نظام الأسد في الداخل اللبناني. وهذا يقتضي أيضاً أن يسهّل “الثنائي” انطلاقة العهد والحكومة وبناء المؤسسات خارج منظومة الفساد المعروفة. فالفساد هو سبب كل علّة، وقبل أي شيء آخر، هو يتكفّل باستدراج التدخلات الخارجية والاحتلالات. هذا هو التحدي اليوم. وإلّا، فالعواقب على البلد ستكون مريعة. ولن يكون هناك مجال لتكرار مقولة “لو كنتُ أعلم”.