خاص – الجانب “الغامض” في شخصيّة نوّاف سلام
هو الخيار الأوّل لثورة 17 تشرين. من خارج المنظومة الحاكمة، رجل مثقّف، حائز على شهادات من أرفع الجامعات، آدميّ ونظيف، ابن عائلة بيروتيّة عريقة، وفوق ذلك قانونيّ لا يزيح عن الحقّ. كيف لا وهو كان رئيس أعلى محكمة في العالم، هي محكمة العدل الدولية في لاهاي.
بكلّ هذه الصفات المعروفة عنه، عاد إلى بيروت في 13 كانون الثاني الحاليّ، بعد تكليفه تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس جوزف عون، وهي الحكومة التي يتوقّع أن تكون مختلفة عن كل الحكومات التي سبقتها، لأنّ المنطقة تغيّرت، ومعها سيتغيّر لبنان.
صحيح أنّ المدّة التي يأخذها سلام للتأليف ما زالت قصيرة من حيث الوقت، لكنّها تبدو طويلة من حيث الغموض المحيط بها. وعندما أراد رئيس الحكومة المكلّف في تصريحه الأخير إثر زيارته قصر بعبدا، إزالة الالتباس حول التشكيلة الحكومية، زادها في الواقع غموضاً.
لا يمكن لمن يستمع إليه إغفال العصبية الظاهرة في طبعه. وهذا يبدو في حركة الجسد وارتجاف اليدين، وفي الإجابات المقتضبة. وعلى رغم أنّه تعمّد الابتسام في نهاية تصريحه الأخير، وأفسح في المجال لأسئلة الصحافيين، فإنّ أيّ جواب لم يعطِ صورة واضحة عمّا يجري، أوعن شكل الحكومة المقبلة من الناحية التطبيقية. هو يكتفي بتكرار المبادئ التي سيتمّ على أساسها اختيار الوزراء، مؤكّداً أنّه لن يتراجع عنها. ولا أحد هنا يشكّك في صدقيّة كلامه ونواياه، ولكن كثراً يسألون عن كيفية “إسقاط” هذه المبادئ على أرض الواقع.
فصل النيابة عن الوزارة، الكفاءة، أن يكون الوزراء من غير المرشّحين للانتخابات النيابية والبلدية. ثلاثة عناوين ممتازة. ولكنّها في تركيبة كتركيبة لبنان لا تعني شيئاً. ففصل النيابة عن الوزارة مثلاً لا يعني على الإطلاق فصل السلطات، لأنّ الوزير، ولو لم يكن نائباً، ينفّذ عمليّاً سياسة الحزب الذي يمثّله، وهذا الحزب موجود في الحكومة والمجلس في وقت واحد. وقد قال الرئيس المكلّف بنفسه إنّه لا يريد حكومة تكون كناية عن مجلس نوّاب مصغّر. ولكن ترجمة ذلك لا تكون إلّا بطريقتين لا ثالث لهما: إمّا أن تمثّل الحكومة أكثرية معيّنة، في حين تكون الأقلّية في المعارضة، كما يحصل في دول العالم الديموقرطي، أو أن لا يكون الوزراء منتمين إلى أي حزب، ولا حتّى مقرّبين منه أو محسوبين عليه، لأنّ الأمر سيّان في هذه الحالات.
وعندما سئل عن إيضاح حقيقة ما حُكي عن إعطاء وزارة المال لياسين جابر، كرّر سلام مقولته أن ليس هناك وزارة حكراً على طائفة، كما ليس هناك وزارة ممنوعة عن طائفة. بمعنى أنّه لم ينفِ ولم يؤكّد. فلماذا يحيط الرئيس المكلّف عمليّة تشكيل الحكومة بكلّ هذا الغموض؟
أمّا حديثه عن أنّ الحكومة لن يكون فيها تمثيل للأحزاب، فيتناقض تماماً مع تأكيده التواصل مع كل الأطراف وعدم إقصاء أيّ طرف. فإذا كان يريد تشكيل حكومة غير حزبية، فلمَ هو مستمرٌ في التشاور مع هذه الأحزاب، والوقوف عند رأيها؟ أو ليست مشاورات ما بعد التكليف، والتي استنارت بأفكار الجميع كافية ووافية؟
في الواقع، وبلا مواربة، يبدو نوّاف سلام مرتبكاً في تشكيل الحكومة. والتزامه الصمت المطبق، من دون أي توضيح، لأيّام، بعد المعلومات التي نُشرت عن التوافق على إيلاء وزارة المال لياسين جابر، تعطي الانطباع للمواطنين أنّ هذه المعلومات صحيحة. وما زاد في تشويش الصورة هو الاعتقاد بأنّ موافقة سلام على اسم جابر أتت بعد عراضات “الحزب”، بما يوحي بالرضوخ لطلبات الثنائي الشيعي. وهذه الانطباعات هي التي اضطرته إلى زيارة القصر الجمهوري، والإدلاء بتصريح يهدف إلى نفي قبوله بأيّ إملاءات، ولكنّه في الواقع لم يؤدّ الغاية منه، وإن كان أوحى بأنّ الأمور عادت إلى نقطة الصفر من جديد.
مشكلة نوّاف سلام، حسب اعتقاد بعض المراقبين، أنّه يجد صعوبة كبيرة في التوفيق بين المبادئ التي يريد أن تقوم عليها حكومته، وكيفية ترجمة ذلك في التركيبة الحكومية. فهو كمن يعمل على خلط الماء والزيت أو إيجاد نقطة مشتركة بين خطّين متوازيين لا يلتقيان.
فكيف يمكن أن يكون عادلا في توزيع الحقائب، فيما يريد الثنائي فرض اسم محدّد لوزارة المال؟ وما أدراك ما في وزارة المال من خفايا وأرقام يراد إخفاؤها، وكيف لوزارة المال أن تقف عائقاً أمام عملية الإصلاح المالي المطلوب من دول العالم لعودة لبنان إلى الخريطة الدولية وبدء خروجه من أزمته؟
سلام عالق بين “مثاليته” وأخطبوط السياسة اللبنانية. يريد أن يأخذ رأي الجميع، لدرجة أنّ كثرة الطبّاخين “شوشطت” الطبخة. يرضي الثنائي، فيُغضب الآخرين. يريد الابتعاد عن التمثيل الحزبي، لكنّه يشاور الأحزاب. يريد أكبر قدر من التجانس في حكومة تضمّ كل الاطراف. إنّه المستحيل بعينه.
فمثالية سلام يجب ألّا تنسيه أمراً مهماً، وهو أنّه ما كان ليأتي إلى رئاسة الحكومة، لو لم يحصل التغيير الكبير في المنطقة، ولو لم يضعف “حزب الله” وإيران، ويسقط النظام السوري. ولا يمكنه أن ينسى الأطراف الدولية والعربية التي دعمت وصوله.
هذا لا يعني أن يقصي أي طرف، لكنّه يعني أيضاً إن لا ينصاع لإرادة أي طرف. اللعبة في لبنان صعبة جداً على نظيفي الكفّ. إذ عليهم أن يجمعوا بين العدل والحنكة والواقعية وعدم التردّد لاتّخاذ القرار الشجاع، وعدم تفويت الفرصة السانحة التي قد لا تتكرّر أبداً.
غلطة 14 آذار في العام 2005 أنّهم صدّقوا أن “حزب الله” سيتلبنن. وقد تكون غلطتهم الآن أن “الحزب” سيقتنع بأنّه خسر. فهل سيقلب سلام الطاولة، ويشكّل الحكومة التي تتطابق مع قناعاته، وليرضَ من يرضى وليرفض من يرفض؟ وإذا كان رئيس الجمهورية أتى بأصوات الغالبية، وكذلك أتى سلام بتسميته من الغالبية، فلتكن الحكومة محسوبة عليهما فقط، طالما أن الأكثرية تثق بهما، والحكم يكون على الأفعال.