خاص – تشكيل الحكومة قبل فوات الأوان
في الأساس، ليس اتّفاق وقف النار في الجنوب اتّفاقاً نهائياً. بل هو تجريبي محدّد بشهرين، ومشروط بما سُمّي “حقّ الدفاع عن النفس”. وبما أنّه في الواقع اتفاق استسلام، فإن إسرائيل تسمح لنفسها بالتصرّف به على هواها، وتفسير حسن تطبيقه كما تشاء. ومن هذا المنطلق، فهي تعتبر أنّ ما تمّ الاتفاق عليه من وجوب انسحاب “الحزب” في شكل كامل لم يتمّ، كما لم ينتشر الجيش اللبناني في كلّ المنطقة جنوب الليطاني. لذا، فإنّ مهلة الستين يوماً انقضت، ولم يحصل الانسحاب سوى من بعض المناطق في القطاعين الغربي والأوسط.
وعليه، حاول “الحزب” استعادة المبادرة. فتوجّه عدد من الأهالي إلى القرى الجنوبية، وتحدّوا القوّات الإسرائيلية، التي قامت بإطلاق النار عليهم، حيث قُتل 22 شخصاً وأصيب أكثر من مئة بجروح. ولاحقاً، أُعلن تمديد مهلة وقف النار حتّى 18 شباط المقبل. فهل الأحداث التي جرت في الجنوب ستسرّع الانسحاب الإسرائيلي، أم ستجعل إسرائيل تضع حججاً جديدة لبقائها، وربّما لإقامة منطقة عازلة؟
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أعلن بكل وضوح أنّ جيشه لن ينسحب من لبنان، وسيبقى في نقاط محدّدة، خصوصاً في القطاع الشرقي المطلّ على سهل الحولة والجليل، والذي يُعتبر منطقة استراتيجية عسكرياً.
ثمّة من يرى أنّ الجيش الإسرائيلي سيتّخذ ممّا حصل الأحد، حجّة إضافية لاستمرار وجوده في الجنوب مدّة أطول، ستضاف إلى الحجج الأخرى، ومنها أنّ “الحزب” ما زال يمتلك ما بين 1000 و40.000 صاروخ، حسب تقديرات بعض الخبراء العسكريين، وما زالت إيران تحاول إرسال السلاح إليه، بدليل أن الإدارة السورية الجديدة أعلنت الأحد ضبط أسلحة كانت متّجهة إلى لبنان لصالح “حزب الله” عبر طرق التهريب على الحدود.
وفي الواقع، ليس هناك إلّا خارطة طريق وحيدة، تؤمّن انسحاب الاحتلال الإسرائيلي، وهي إمساك الدولة اللبنانية بكل المفاصل الأمنية وبسط سلطتها الكاملة ومصادرة أي سلاح في أيدي قوى غير القوى الشرعية. وبمعنى أوضح تنفيذ اتّفاق وقف النار بكل حذافيره، من دون مواربة أو تشاطر.
والطريق لتحقيق ذلك، لا تكون إلّا انطلاقاً من القرار السياسي، بحيث يجري تشكيل الحكومة سريعاً، والتي سيكون بيانها الوزاري متناسقاً مع خطاب القسم، وأن يُقرن البيان بالتنفيذ، بحيث تبسط القوى الشرعيّة سلطتها، ويجري تسليم السلاح إلى الدولة، ويُنظر بعدها بكيفية دخول عناصر “الحزب” إلى الجيش والقوى الأمنية الأخرى، كفريق مندمج، وليس كلواء مستقلّ.
وليست المهمّات الملقاة على كاهل الحكومة الجديدة بسهلة على الإطلاق. فـ “الحزب” لم يستوعب بعد التغيير الذي حصل، ولم يقرّ بهزيمة مشروعه. لذا، يقوم باستعمال ما تبقّى لديه من نفوذ من أجل ممارسة الضغط في ما خصّ التشكيلة الحكومية، ويطالب بوزارة المال. وهو سيستغلّ ما حصل في الجنوب، وما تبع ذلك من مسيرات في الضاحية، وفي مناطق أخرى كالجمّيزة وعين الرمّانة، حيث وقعت إشكالات مع السكّان، من أجل الضغط في اتّجاه القبول بالشروط التي يضعها لتشكيل الحكومة، وعلى رأسها حصول الثنائي على حقيبة وزارة المال، وسيضيف إليها الآن العودة إلى نظرية “شعب جيش مقاومة”.
ولكن في المقابل، تقول بعض المعلومات إنّ قوى سياسيّة تضغط على رئيس الحكومة المكلّف نوّاف سلام، من أجل الإسراع في إعلان تشكيلة الحكومة، بالشكل الذي يراه مناسباً، لتفويت الفرصة على من يحاول الخربطة، وتشدّ على يده من أجل اتّخاذ قرار شجاع لصالح لبنان. ويعتبر هؤلاء أنّ التمهّل ليس أبداً في صالح العهد الجديد ورئيس الحكومة المكلّف، اللذين سيواجهان تحدّيات هائلة في المراحل المقبلة.
أمّا الخطوة الثانية الأساسية، فهي تقوية الجيش وزيادة عديده وتسليحه وإجراء تعيينات في قيادته، بما يكفل القيام بالمهامّ المطلوبة منه. وأكثر ما يحتاج إليه الجيش اليوم هو الغطاء السياسي الحازم والقوي، لتنفيذ قرار بسط سلطة الدولة على كلّ الأراضي اللبنانية. وإذا لم يُظهر الجيش التوجّه الواضح للمضي في هذا الطريق، وفي تنفيذ القرار 1701 والقرار 1559، فإنّ المساعدات الموعودة لن تصل، والأسلحة المطلوبة لن تُعطى.
ولا ينفصل الشقّ المتعلّق بالإصلاحات السياسية والمالية المطلوبة عن المسار العسكري. فالعمليّة التغييرية هي كلّ لا يتجزّأ. وإذا نقصت منها حلقة واحدة، فإنّها سنتهار برمّتها. وقد أكّدت فرنسا، التي زار رئيسها إيمانويل ماكرون لبنان، ربط المساعدات بالأصلاح. وكذلك فعل وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، الذي أعطت زيارته لبيروت إشارة إيجابية مهمّة. ولكنّها لن تُترجم على الأرض عبر استثمارات تنهض بالاقتصاد إلّا بعد إجراء الإصلاحات المطلوبة.
إذاً، الكرة الآن في ملعب رئيس الجمهورية جوزف عون ورئيس الحكومة المكلّف نوّاف سلام اللذين حظيا بثقة كبيرة من مجلس النوّاب، ويتطلّع إليهما الشعب لإخراج البلاد من مستنقع أزماته.
وليس تشكيل الحكومة المقبلة بالأمر البسيط. فهي نقطة البداية للتغيير. إذ إنّ هذه الحكومة ستشكّل الغطاء لسحب السلاح من “الحزب” ومن كل القوى الأخرى. وهي التي ستقرّ قانون الانتخاب الجديد، وستشرف على الانتخابات النيابية في أيار من العام 2025. وهذه الانتخابات ستكون مفصلية في تغيير موازين القوى في المجلس النيابي، الذي ما زال نتاج الحقبة السابقة.