الشرطة القضائية ولغز جثة الفتاة في حرش عرمون 1968
لا يمكن التصدى لجرائم هذا العصر متعددة الأشكال إلا باختيار عناصر الشرطة الكفوئين والقضاة الجديرين بعيداً من المحاصصة الطائفية…
مطلع شهر نيسان/ أبريل 1968 ادعى جميل (33سنة) في مخفر برج البراجنة باختفاء شقيقته سميرة (22سنة) التي خرجت لشراء بعض الحاجيات من الدكان القريب ولم تعد إلى منزلها الذي تقيم فيه مع ذويها.
النيابة العامة في جبل لبنان عممت بلاغ بحث وتحر عنها وتم تكليف القطعات الأمنية تنفيذ هذه الإشارة، وأحَالَت القضية إلى مفرزة بعبدا الجنائية (التحري) لبيان مصير الفتاة المفقودة.
تولى النقيب بدري الغزال، آمر مفرزة بعبدا الجنائية التحقيق شخصياً بالقضية على رأس دورية من مفرزته، وتبين من خلال إعادة استجواب جميل الذي يعمل في أحد فنادق العاصمة، أنه يقتني سيارة رينو خضراء نوع دوفين، خصوصية لتلبية حاجاته.
تذكر النقيب أنه منذ أيام قليلة وبعد أن التقى ليلاً بأحد المخبرين المتعاونين معه في بلدة عرمون، وأثناء عودته منها، شاهد سيارة رينو دوفين خضراء تخرج من حرج عرمون الخالي من السكان في حينها، يقودها شاب بسرعة لافتة، فطلب إلى سائقه حنا، تسجيل رقمها في ذلك الوقت المتأخر؟
تبين من معلومات موثوقة للنقيب أن الفتاة المدَّعى بفقدانها، كانت تنوي الزواج من شاب من غير دينها خلافاً لرأي أهلها، وقد باحت لأحد رفيقاتها بتصميمها الهرب معه مهما كلف الأمر.
بمراجعة قيود مصلحة تسجيل السيارات تبين أن صاحب الرقم يملكه الشاب جميل (المدّعي) من سكان برج البراجنة!!
باستجواب دقيق لجميل عما إذا كان خرج بسيارته الخاصة الخضراء من حرج عرمون الموحش قبل ليلة من ادعائه بفقدان أخته سميرة في المخفر، أنكر تماماً وأنه لا يعرف محلة عرمون ولم يسبق أن زارها! تأكد الضابط من كذب المدعي جميل، فاتصل بالمدعي العام في جبل لبنان وأعلمه بشكوكه بإخفاء جميل معلومات تتعلق باختفاء شقيقته.
تمت مواجهة جميل بمشاهدة سيارته تخرج ليلاً من حرج عرمون قبل 24 ساعة من الادّعاء باختفاء أخته سميرة وأنه يكذب، ونصحه بقول الحقيقة قبل استخدام وسائل عنف كانت متداولة في حينه. انهار جميل واعترف أمام الضابط بأنه أقدم على قتل شقيقته بإطلاق النار من مسدسه الحربي غير المرخص نحو رأسها بعد إصرارها على الزواج من شاب من غير طائفتها وخلافاً لرأي عائلتها، وبعد التحقق من موتها لفها بحرام من الصوف، ليلاً، وحملها إلى صندوق سيارته الخاصة ونقلها منفرداً إلى حرش عرمون المقفر ورماها في حفرة وغطاها بكومة من الأغصان وفرّ بسرعة من المحلة عبر طريق عرمون – خلده.
توجه صباح اليوم التالي إلى مخفر برج البراجنة وادعى باختفائها طالباً من الأجهزة الأمنية كشف الجريمة. انتقل النقيب مع دورية التحري برفقة جميل إلى حرش عرمون ودلهم إلى موقع الجثة المغطاة بأغصان شجرة توت قريبة، والتي بدأت الوحوش بأكل بعضها.
اتصل الضابط بالمقدم رؤوف عبد الصمد، قائد الشرطة القضائية، والمدعي العام حيث حضرا برفقة دورية الأدلة الجنائية والطبيب الشرعي واستمعوا إلى إفادة جميل الذي ندِم على قتل أخته بعد كشف خفايا جريمة الشرف الذي ادعى تنفيذها لحفظ كرامة عائلته!
تولت دورية تحرٍّ أخرى تفتيش منزله وضُبِط المسدس الحربي نوع هرستال مع عشر طلقات عيار 9 ملم.
نوه المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان وقائد الشرطة القضائية بجدارة النقيب بدري الغزال وعناصره بالتنبه لتسجيل رقم سيارة مشبوهة تخرج ليلاً من حرج خال من السكان، وتبين أن مالكها أقدم على قتل شقيقته ثم ادعى باختفائها في المخفر للتمويه عن جناية القتل التي نفذها. حُكم على جميل بجناية قتل أخته البريئة وأنها ليست جريمة شرف، بل جريمة ضد الإنسانية!
عمم القائد أمره بتزويد عناصر الشرطة القضائية كافة بدفتر جيب صغير الحجم، يحوي أسماء المطلوبين ضمن نطاق عمل الدورية وما يشاهدونه وعدم الاعتماد على الذاكرة فقط، لحسن استثمار المعلومات بسرعة وبدقة بالتنسيق مع قسم المباحث الفنية.
تنوعت أصناف الجرائم الجديدة والتي تستدعي إخضاع عناصر الضابطة العدلية إلى تدريب مستمر ومتطور لمواكبة التقنيات العالية التي يستخدمها المجرمون المحترفون لا سيما بحقول جرائم: المعلوماتية، الإتجار بالبشر، المخدرات، تبييض الأموال، الإرهاب، الفساد والإثراء غير المشروع وغيرها، كما يستدعي تخصص قضاة بكل فئة من هذه الجرائم، فإذا كنا مثلاً نعتمد ضباطاً ورتباء متخصصين لمكافحة جرائم الإتجار بالبشر وحماية الآداب، فالأولى بأن يتخصص قضاة محددون بهذه الجرائم كما شاهدنا أثناء مهامنا في قيادة الشرطة القضائية (2005-2010)، قضاة متخصصون ومتفرغون لمتابعة جرائم مكافحة المخدرات في الأردن، وقضاة متخصصون بمكافحة الإرهاب في فرنسا، يعمل بإشرافهم عناصر الشرطة القضائية المدربون والمكلفون مكافحة تلك الجرائم.
لا يمكن أن نتصدى لجرائم هذا العصر المتعددة الأشكال والتي تعتمد وسائل وتقنيات ولوجستية غنية تفوق قدرات الشرطة الوطنية أحياناً كثيرة، ومع ظهور الذكاء الاصطناعيArtificial Intelligence AI ، إلا باختيار عناصر الشرطة الكفوئين والقضاة الجديرين بعيداً عن المحاصصة الطائفية وهي العقبة الأساسية في تطوير الأداء الوظيفي للدولة حيث يرتجي الناس تسهيل الإجراءات الحكومية والإدارية لا تعقيدها وتطبيق نظام الحكومة الإلكترونية e-government لمكافحة الفساد وسرعة الإنجاز. بذا نرسخ مفهوم المواطنة citizenship الحقّة والولاء للوطن وليس الولاء للطائفة!
العميد المتقاعد أنور يحيى
*قائد سابق للشرطة القضائية