خاص – فرنسا “تنقّب” عن مصالحها في لبنان الجديد
تصرّ باريس، على رغم كلّ الخيبات السابقة والصفعات والفشل، على أن لا تتخلّى عن الملفّ اللبناني. وليس ذلك كرمى لعيون اللبنانيين من “أمّهم الحنون”، بل تمسّكاً بأهمّ بوّابة لمصالحها في الشرق الأوسط. فهي انتقلت من دعم مرشّح “حزب الله” إلى دعم الرئيس الجديد. لا فرق لديها بين الحالتين، إذا كان الممسك بالسلطة كفيلاً بتأمين مصالحها السياسية والاقتصادية وتسيير استثماراتها.
ففرنسا التي خرجت من مواقع نفوذ مهمّة لها في أفريقيا، وتعاني أزمة مع الجزائر، لم يتبقّ لها سوى لبنان لتثبيت أقدامها في الشرق الأوسط الجديد الذي يُرسم الآن، والذي يُتوقّع أن يشهد ازدهاراً ونموّاً اقتصادياً كبيرين. ولذلك، سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى زيارة بيروت وتهنئة الرئيس جوزف عون، ليكون أوّل رئيس أجنبي يزور لبنان بعد الانتخابات الرئاسية وتكليف القاضي نوّاف سلام تشكيل الحكومة الجديدة.
في الواقع، قامت باريس عبر الموفد جان إيف لودريان بمحاولات حثيثة لإيجاد حلّ للأزمة الرئاسية في لبنان، ولكنّها لم تفلح. وقبل ذلك، زار الرئيس ماكرون بيروت مرّتين بعد انفجار المرفأ المروع، ونظّم مؤتمراً لدعم لبنان. ولكن لم ينفع كلّ ذلك في تحريك العقبات، ولو أُنملة واحدة. وعملت فرنسا جاهدة عبر اللجنة الوزارية الخماسية من دون طائل. وحده التدخّل الأميركي فعل فعله، خصوصاً بعد تضاؤل نفوذ “حزب الله”، وسقوط نظام بشّار الأسد، وإضعاف إيران.
لفرنسا مصالح سياسية واقتصادية في لبنان. فهو المعبر لتوسيع نفوذها في المنطقة، وصولاً إلى سوريا والعراق. وهو أيضاً البوّابة لزيادة الاستثمارات الفرنسية في الشرق الأوسط.
ولكن، تبيّن أن لا قدرة لباريس على التقرير في الشأن اللبناني من دون موافقة الإدارة الأميركية. وأيّ دور سياسي لها سيكون بالتنسيق مع واشنطن، التي تترك للجانب الفرنسي حيّزاً في التعاطي بالشأن اللبناني، نظراً للعلاقات التاريخية المميّزة بين البلدين. ولهذا السبب فشلت كلّ مبادرات لودريان، الذي هدّد وتوعّد، ووصف لبنان بأنه يغرق كالتايتانيك، وأنّه مهدّد بالزوال. ومع ذلك، لم ييأس الموفد الفرنسي. حتّى أنّ طروحاته أثارت في مرحلة ما حفيظة قوى 14 آذار أو المعارضة، بسبب دعمه لمرشح “الحزب”، من أجل المحافظة على موقع بلاده.
وإلى ذلك، فإنّ لباريس مصلحة أساسية في استقرار لبنان وفي استقرار المنطقة، لأنّ ذلك ينعكس على استقرار أوروبا في شكل عام، خصوصاً في حلّ موضوع اللاجئين من سوريا والهجرة غير الشرعيّة إلى دول القارّة الأوروبية. ولذلك، هي تبذل جهوداً من خلال اللجنة المشكّلة لمتابعة وقف النار في الجنوب، والتي هي برئاسة جنرال أميركي، من أجل ضمان دخول الاتّفاق حيّز التنفيذ في الموعد المحدّد في 27 كانون الثاني الجاري.
أمّا المصالح الأهمّ فهي المصالح الاقتصادية، ليس في لبنان فقط، بل عبره إلى الساحة السورية، وأبعد من ذلك أيضاً. وتتركّز الاستثمارات الفرنسية في لبنان في شكل أساسي في محورين رئيسيين، هما تطوير مرفأ بيروت بعد الدمار الذي أصابه، والتنقيب عن النفط والغاز عبر شركة توتال في المياه اللبنانية. ولا يمكن القيام بكل هذه الاستثمارات سوى في جوّ من الاستقرار الأمني والإصلاحات الاقتصادية. ويفتح الحكم الجديد في لبنان فرصة كبيرة في هذا الإطار.
وستعمد باريس إلى عقد مؤتمر لدعم لبنان، بعدما عقدت مؤتمرات كثيرة كباريس1 وباريس2 وسيدر، ولكن الأجواء لم تكن مناسبة في حينها لاستفادة لبنان من هذه المؤتمرات. وتطمح باريس اليوم إلى الاستثمار في مشاريع البنى التحتية المتهالكة والطاقة. وقد حصلت شركة فرنسية على تراخيص إنشاء محطّات طاقة شمسية في لبنان. ومعلوم الدور الاستثماري في عالم الشحن الذي تلعبه شركة CMA CGM التي يملكها الفرنسي اللبناني رودولف سعادة المقرّب من الرئيس ماكرون. وفازت هذه الشركة أيضاً بعقد لمدة 10 سنوات بقيمة 33 مليون دولار لتشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت. وقد أطلقت السفارة الفرنسية في لبنان قبل أقلّ من عام المخطّط التوجيهي لمرفأ بيروت، والذي أعدّته شركات فرنسية بتمويل من الدولة.
أمّا المشروع الآخر المهم، فهو شراكة شركة توتال الفرنسية في تراخيص التنقيب عن النفط والغاز في المياه اللبنانية. وقد دعا الرئيس عون خلال لقائه الرئيس الفرنسي إلى أن تستأنف الشركة الفرنسية عمليات التنقيب، بعدما توقّفت عن الحفر في البلوك رقم 9، الذي ينتهي مفعول العقد الموقّع حوله في أيار من العام 2025. وكانت توتال سلّمت في تشرين الاول 2023 البلوك 4 الى الدولة، بعدما تبين ان لا وجود للغاز فيه مع انه كان يمكن الحفر في نقطة ثانية. وهناك فرصة الآن، مع الحكم الجديد والإصلاحات التي ستُقرّ، لأن تعاود توتال والشركات الأخرى عمليات التنقيب عن الغاز. وإذا ما تمّ تثبيت الاستقرار، فإنّ الفائدة التي ستعود على لبنان من ملفّ الغاز ستكون كبيرة.