استعادة القواعد الدستورية في تأليف الحكومات
استمرّ التلاعب بطبيعة الحكومات في الدستور اللبناني طوال أكثر من أربعين سنة بهدف الهيمنة والتعطيل من قبل الاحتلال المباشر أو بالوكالة ومن قبل سياسيين مخادعين ومثقفين من دون خبرة متطفّلين على البحث الدستوري وخصوصية النظام البرلماني التعدّدي اللبناني. الحاجة إلى استعادة قواعد الإعراب في الدستور اللبناني في تأليف حكومة العهد برئاسة نوّاف سلام.
يتمّ تأليف حكومة وحدة وطنية تضمّ كل القوى السياسية في مختلف أنظمة الحكم ولكن استثنائياً ولمرحلة محدّدة. استغلّت سلطات الاحتلال المباشر أو بالوكالة تأليف الحكومات لإرساء هيمنة فئوية والتعطيل ومأسسة المحاصصة والزبائنية خلف ستار شعارات اجترارية حول “الطائفية” والميثاق.
مبادئ الدستور اللبناني، منذ الآباء المؤسسين وانطلاقاً من كلّ التعديلات في الدستور اللبناني المعدّل بموجب ميثاق الطائف، ثابتة وخاضعة لمعايير في النظرية الدستورية. نورد بإيجاز المعايير الناظمة لتأليف الحكومات في لبنان.
1. الفصل بين السلطات: يرد في مقدمة الدستور اللبناني: “ه- النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها”. يعني ذلك أن حكومة البرلمان المصغّر mini-parlement تخرق مبدأ الفصل بين السلطات وتعطّل تماماً الرقابة البرلمانية وتعطّل توفر معارضة فاعلة وأي رقابة ومحاسبة ويتحوّل النظام البرلماني اللبناني إلى نظام مجلسي régime d’assemblée أو بوليارشي polyarchie حيث يستحيل اتخاذ أي قرار إلّا من خلال تبادل منافع.
2. السلطة “الإجرائية”: منذ الآباء المؤسسين للدستور اللبناني والدستور اللبناني المعدّل بموجب ميثاق الطائف يرد توصيف الحكومة في لبنان ليس بالسلطة التنفيذية exécutif، كما هو متداول في أكثر الدساتير، بل في مجمل الفصل الرابع بـ “السلطة الإجرائية” exécutoire، ما يعني “جعل الأمور تجري”، أي أن وزراء أخصائيين يوصلون الماء والكهرباء وصيانة الطرقات وضمان الأمان والاستقرار… أما المكان الدائم للحوار والمناقشة فهو المجلس النيابي استناداً إلى مجمل كتابات ميشال شيحا والآباء المؤسسين. يرد في المادة 65: “تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء”. سلطة الحكومة الموصوفة بالإجرائية هي على نمط دوائر الأجرة في وزارة العدل التي تعمل على تنفيذ الأحكام. وتعني “الإجرائية” في اللغة العربية: “جعل الأمور تجري” (لسان العرب لابن منظور).
3. تمثيل الطوائف: يرد بوضوح في المادة 95 من الدستور اللبناني: “تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة”. لا يرد في هذه المادة تمثيل قوى سياسية وأحجام وحصص…! الهدف في تمثيل الطوائف تحقيق الأمان النفسي في عدم العزل وضمان المشاركة الديمقراطية والفعالية. ولا تختزل أي مجموعة نواب منتمين إلى طائفة في المجلس النيابي كل الطائفة! النواب الموارنة والشيعة والسنة والموحدون الدروز… لا يختزلون كل أبناء الطائفة! قد يكون بعضهم في انسجام مع أعضاء برلمانيين للطائفة وقد تكون لهم توجهات مختلفة، وربما أكثر أصالة وتميزّاً وحرصاً على المصلحة العامة.
4. ليست الثقة على درجتين! خلافاً لما حصل في عهد المخادعة imposture، بخاصة منذ 2016، يرد في المادة 65: “رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها ويعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء (…) يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها. وعلى الحكومة أن تتقدّم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها. ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة…”.
توجد أنماط عدة من التواقيع signature في القانون: الموافقة المطلقة (كما في عقد تجاري أو تأجير شقة…)، المصادقة، أخذ العلم حول التقيد بالأصول الإجرائية… إن رئيس الحكومة هو المسؤول دستوريّاً عن الحكومة وهو المعرّض للمساءلة البرلمانية. ما حصل في عهد سابق هو تحويل الثقة البرلمانية للحكومة إلى درجتين:
درجة أولى من قبل رئيس الجمهورية، ثم ثقة البرلمان وكأنها مجرد مصادقة إدارية!
في حال أي خلاف أو تباين بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، إن مرجعية الحسم هي المجلس النيابي الذي قد يمنح الثقة أو لا يمنحها! واجب رئيس الحكومة بالتالي الأخذ في الاعتبار المعطيات البرلمانية وواقع التنوّع الاجتماعي اللبناني في تأليف الحكومة لكي تحظى الحكومة بثقة المجلس النيابي.
إن فصل السلطات محقق في إطار طبيعة النظام الدستوري اللبناني من خلال رئيس الدولة الذي “يسهر على احترام الدستور” (المادة 49)، ومن خلال طبيعة الحكومات الموصوفة بالسلطة “الإجرائية”. كل الاعتبارات الأخرى في سجالات قانونيين – ولا نقول حقوقيين – لا علاقة لها بالعلم الدستوري ولا بالدستور اللبناني. الحاجة إلى الاطلاع على دراسات عديدة معاصرة حول تعددية أشكال الفصل بين السلطات في الأنظمة الدستورية:
Maxence Unau, “ Propositions pour une classification renouvelée des régimes politiques », Revue française de droit constitutionnel, no 136, 2023, pp. 935-955.